صلاة الجمعة

الخطیب:
مقامة مِن قِبَل حجة الإسلام و المسلمین الترابي

28.08.2015بسم
الله الرحمن الرحیم.

 الحمد لله ربّ العالمين الذی لا مُضادّ له في
مُلكه و لا مُنازِعَ لَهُ في أمره. الحمدالله الذی لا شريك لَهُ في خلقه و لا شبيه
لَهُ في عَظَمَتِه. وصلّی الله علی سيدّنا ونبيّنا محمّد صلّی الله عليه و آله
الطیِّبین الطاهرين واصحابه المنتجبين. عبادالله، أُوصيكم و نفسي بتقوی الله و اتّباع
امره و نهیه. قال الله الحكیم فی محكم كتابه المبین أعوذ بالله من الشیطان الرجیم:

« وَ عِبادُ الرَّحْمنِ….وَ الَّذينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ
لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ اجْعَلْنا
لِلْمُتَّقينَ إِماماً » الفرقان، الآیة74

المقدّمه :

لقد تكلّمنا في
الخُطَب الماضیة عن البركات
و الآثار الإیجابیّة التي یكسبها الإنسان عند حفظ كیان العائلة و حسن التعامُل بین
أفرادها و خصوصًا بین الزوج و الزوجة ، فرأینا أنَّ: اُولی البركات هي: أنَّ
العائلة السلیمة یسودها السعي لطاعة المولی العزیز القدیر و لكسب رضاه جلّ و علا
والفوز بالأجر المعنويّ. والبركة الثانیة هي: تَواجُد
الهدوء و السكینة والراحة الجسمیّة و الروحیّة بین أعضائها. والبركة الثالثة هي: ما تكلّمنا عنها و هي العائلة التي
تسودها المودّة و الرحمة و المحبّة السلیمة. والبركة
الرابعة هي: العفه و التزكیة النفسیّة و البركة
الخامسة ترویج العمل و تنشیط الإقتصاد و البرکه السادسة « الإرتقاء الكیفي
و الكمّي في العبادة ». و في هذه الخطبة نتطرّق إنشاء الله تبارك و تعالی إلی البرکة
السابعة وهی تربیة النسل.

المقدّمه :
إنَّ ما تلونا من الایات من سورة المبارکة الفرقان تخصُّ المؤمنین المُخلِصین
الذین جاء ذكرهُم في قوله تعالی بتعبیر « عِبادُ الرّحمن »  هم الذین لهُم إثنی
عشر من الخصائص و آخِرُها هو الإهتمام بالنسل وتربیة الأطفال و هذه الخصائص الإثنی
عشر هي:

1.     إنّهُم یمشون علی الأرض هونًا متواضعین خاشعین.

2.     و حین یُخاطبُهُم الجاهلون یتعاملون معهم بلطفٍ و
لین.

3.     و هم أهل العبادة و كم من لیالٍ یقضونها راكعین
ساجدین أو واقفین إلی نهایة اللیل.

4.     یناجون ربّ العالمین و یسألونه أن یصرف عنهم نار
جهنّم و السیّئات من الأفكار و الأخلاق و الأعمال.

5.     وهم الذین ینفقون الأموال في سبیل الله تبارك
وتعالی ولكنّهُم لا أن یُسرِفون ولا أن یبخلون، بل إنّهُم یتعاملون بین ذلك وسطًا.

6.     یتجنّبون عن الشرك و العبادة لغیر الله  تبارك و تعالی.

7.     یحفظون حُرمة دماء الآخرین و أرواحهم.

8.     یتجنّبون السیّئات و القبائح من الشهوات.

9.     لا یشهدون كاذبین.

10.     و إذا تعرّضوا إلی اللغو مرّوا كرامًا مبتعدین
عنها.

11.     و إذا ذُكِّروا بآیات الله توجّهوا إلیه عزّ و جلّ
بالقلب و الروح.

12.     و یهتمّون بتربیة ذریّتهم و یستعینون بالمولی
العزیز القدیر جلّ و علا لهدایتهم.  

 

 الموضوع الأوّل:

إنَّ تأمین معیشة الأولاد و البنات یکون
علی عاتق الأب  كما نری بیان
ذلك في القرآن الكریم في قوله تعالی: « وَ عَلى
المَولُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كسْوَتُهُنَّ بالمعروف ۲۹ ». إنَّ المسؤلیّة المالیّة التي
تخصُّ تأمین معیشة  الأبناء و البنات علی
عاتق الوالد و هي من الواجبات الدائمیّة التي لا تُرفع عنه أبدًا. و لكن یجب أن
نعلم بأنَّ تأمین الأمور المادّيّة هي لیست 
الواجب الوحید الذي علی عاتق الأب، بل و هنالك واجبٌ أهمٌّ من ذلك بكثیر،
علی عاتق الوالدین أي الأب و الأمّ علی حدٍّ سواء أَلا وهو « التربیة الصحیحة
للأطفال وفقًا للتعالیم الإلهیّة ».

إنَّ ما نراه في قوله تعالی : « يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم
مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً
كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا» إنَّ
المُخاطَبین في تعبیر « الناس » هم الوالدین علی حدٍّ سواءٍ فیما یخصُّ الوالد و
الوالدة و المسؤلیّة التي علی عاتقهم في تربیة الأطفال.

كما و نری التحذیر للناس في الآیة
السادسة من سورة التحریم في قوله تعالی: « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ
نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ »  

الموضوع الثاني:

إنَّ الموضوع الثاني هو
ما نراه في هذه الآیة الکریمة في قوله تعالی: « وَ الَّذينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِن أزواجِنا وَ
ذرّیاتِنا قُرّةَ أعیُنٍ و إجعَلنا للمُتّقینَ إمامًا » فوفقًا لما جاء في الآیة الشریفة ، یری المؤمنون الصادقون أهمّیّة
الواجبات التي علی عاتق الوالدین و ثقلها و صعوبتها فیما یخصُّ تربیة الأطفال و
حاجتهمُ الماسّة لعونه تعالی و أنُّه لیس في وسع الإنسان أداء هذه الواجبات من دون
معونته جلّ وعلا و لذلك یتوجّهون إلیه تبارک و تعالی بالدعاء! و لكن هل یصحُّ إكتفاء
الوادین بمجرّد الدعاء؟ و ما هو دور الدعاء فیما یخصُّ هذا الأمر؟ 

إنَّ دعاء الصادقین الذي ینبع من
صمیم  قلوبهم هو من علائم الإخلاص و
المحبّة و رمز السعي و النشاط و الخُلوص في خدمة المولی العزیز القدیر تبارك و
تعالی. و لذلك فإنَّ الأفراد الذین جاء ذكرهُم في القرآن الكریم فیما یخصُّ الدعاء
للتوفیق للتربیة الصحیحة لذریّتهم، لا یمكن أن یكون مجرّد الذكر علی الألسن، بل
إنّ فیه التوجّه بالخُلوص إلیه عزّ و جلّ مقرونًا بالرجاء للمعونة و الهدی، حین
یسعون بكلّ ما في وُسعِهِم للعمل بالتربیة الصحیحة لذریّتهم من أولادهم و بناتهم.
فالحقیقة هي أنّه لا أن یكفي الدعاء و لا أن یكفي السعي للتربیة الصحیحة كلٌّ
لوحده فإنَّ إستجابة الدعاء لها شروطٌ و منها هو السعي للعمل الصالح بل یجب أن
یکون مقرونًا بالعمل الصالح.

الموضوع الثالث:

هو ما یخصُّ دعاء
عباده المخلِصین الذين یتوجّهون إلیه جلّ و علا بما نراه في الایة المذكورة في
قوله تعالی: « ربّنا هَبْ لَنا مِنْ
أَزْواجِنا وَ ذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ» و
قرّة الأعین هي الأمور التي حین یراها الإنسان، یفرح بها و تنفتح أعینه و یشعّ
السرور من قلبه خلال أعینه. إنَّ إحدی خصائص المؤمنین الصادقین هي رغبتهم في أن تكون
ذرّیّتهم ما تنوّر قلوبهم و تقرّ أعینهم بل ولیكونوا قرّة عین لكلّ من یراهُم و
حتّی لكلّ البشریّة و لیکونوا المسرة للجمیع.

فما لا شك فیه هو أنَّ منشأ هذه
المسرّات، هي لیس ما یحصل بالصدفة الآنیّة أو في اللحظاتّ، بل إنّها تحصل حین یری
الإنسان شخصًا یتوسّم بالخصائص الذاتیّة مثل: 

1.    
أن یكون الذي
نلاقیه هو من كان قد أحلّ عقدة معقّدة لا حلّ لها بسهولة للإنسان فیما مضی أو أن
یتوقّع الإنسان منه أن یحلّ له العقدة التي یعاني منها.

2.    
أن یکون شخصًا
یهدي الذي یراه إلی الخیر و البركات و التقدُّم العظیم في حیاته.

3.    
أن یكون شخصًا ذو كمالات
و خصائص عظیمة.

4.    
أن یكون شخصًا كانت
معه ذكریات جمیلة لا تُنسی لمن یلاقیه.

  و لذلك نری في العدید من الروایات أنَّ المصداق الكامل لهذه الآیة الكریمة و
خصوصًا مصداق الفقرتین الأخیرتین هو الرسول الأكرم المصطفی الأمجد أبوا القاسم
محمّد ص و الإمام عليّ بن أبیطالب أمیر المؤمنین ع و الأئمّة الكرام و جمیع
أهل بیت النبوّة علیهم السلام ، فإنَّ أولئك هم الذین یکونون قرّة الأعین الحقیقیّة
للبشریّة و هم الذین یکونون خیر أسوة للصالحین في العالم إلی یوم یُبعثون، إذ
أنّهُم كانوا أحسن الهداة الأبرار المتّقین و أجمل و أكمل قرّة الأعین للبشریّة ،
إذ أنّهُم هَدَوا الناس إلی الحقّ و حلّوا العُقَد في الحیاة الإنسانیّة و أحیَـوا
كلّ الخصال الحسنة لیتوسّم بها العباد و لیكونوا من المخلِصین الصالحین.

و
لذلك نری الروایة التي قال فیها الإمام الصادق ع ما محتواه هو: « إنَّنا نحن أهل
بیت النبوّة المَعنِیّین في هذه الآیة الشریفة.» و الدلیل علی ذلك هو أنّهُم، هم
الذین إجتباهم الله تبارك و تعالی للتربیة الإلهیّة المباشَرَة و لذلك قد توصّلوا
إلی أعلی الدرجات الإنسانیّة التي یمكن أن یتوصّل إلیها الإنسان و هم الهداة الذین
یفیدون ابشریّة بكونهم خیر أسوة للصالحین المخلصین.

الموضوع الرابع:

و أمّا ما یخصُّ ما
قاله ع « وَ اجْعَلْنا
لِلْمُتَّقينَ إِماماً » فهل یصحُّ إن یسأل إنسانٌ من
الله تبارك و تعالی نیال منزلة الرئاسة المعنویّة و الروحانیّة؟ وهل إنَّ مثل هذا
الدعاء و الرجاء من الله تبارك و تعالی مذمومٌ مقبوح؟ 

إنّ بعضَ المفسِّرین یرون أنَّ الدعاء
المذكور في هذه الآیة الشریفة مرغوبٌ و مطلوب. ولكن یجب أن نتمعّن في أنَّ هذا
النوع من الإمامة المعنویّة لیس أمرًا إعتباریًّا فقط، لكي یستطیع الإنسان أن
یتوصّل به إلی المقامات العالية بمجرّد الرغبة إلیها ـ حتی ولو إن كان لیسأله من
الله تبارك و تعالی ـ بل إنَّ هذا المقام العالي الذي هو مقصودٌ في الدعاء المذكور،
یكون مقرونًا بالصلاحیّات و المسؤلیّات الوسیعة، و لا ینال هذه الرُّتَب إلّا
الذین یكونون قد توصّلوا إلی المراتب و الدرجات العالیة بما لدیهم من العلم و
توسُّمِهِم بالتقوی. و لذلك فإنَّ المعني الذي هو في مغزی الدعاء المذكر یعود إلی
عَزمِهِم للتوصُّل إلی الدرجات العُلی من كونهم الأسوة العلیا في المعنویّات و
رجائهم من المولی العزیز القدیر أن یتوصَّلوا إلی قُمَم العلوم و الزهد و التقوی
في تربیة أنفسهم و أهلیهم.

إنَّ أهل بیت النبوّة ع هم خیر
المصداق لهذه الآیة الشریفة و لكن لا یعني ذلك أنَّ فیها الموانع للآخرین من
العباد الصالحین لیسعوا للمزید من التقوی، إذ أنَّ كلّ المؤمنین یستطیعون أن
یسیروا في هذا المسیر لینالوا ما في وسعهم من الدرجات التي هم أهلها لیكونوا
الأسوة الحسنة للبشریّة و أن یفیدوا الآخرین. و هكذا یتبیّن لنا بأنَّ الهدف من
مستوی التربیة یجب أن یكون في أعلی المستویات من المُثُل العلیا في الإسلام لنیالوا
أعلی ما في وسعهم لدرجة بحیث أن یكونوا قرّة أعینٍ لنا و القدوة للصالحین.   

فكما أنَّ فلسفة خلقِ الإنسان لم تكن
إلّا لیكون عبدًا لله تبارك و تعالی، یجب علیه أیضًا أن یكون المحور الأصلي لتربیة
النسل و إفتتاح العقائد التوحیدیّة في أذهانهم و أفكارهم لیؤمنوا به جلّ و علا.
فحین تكون التربیة الإلهیّة متواجدة في المحیط العائليّ، سوف تتفتّح عیون قلوب
الناس، إذ أنَّ الإنسان الصالح الذي قد تمّت تربیته بالهدی الإلهيَّة، لو توصّل
إلی حمل المسؤلیّة الإداریّة في أيِّ منطقة من العالَم،
فسوف ینشر السرور في الأنفس و السكینة في القلوب بلا قیدٍ و شرط.

و وفقًا للأیة
الشریفة یكون الأشخاص الذين نالوا التوفیق لكونهم من العباد الصالحین له جلّ و
علا، سوف یسعون لتحقیق العبودیّة و نشرها عند الناس بدایة بالتربیة الدینیّة
الإلهیّة في عائلتهم و ذرّیّتهم و سوف یسعون لیكونوا السابقین الساعین للتوسُّم
بالتقوی و أن تكون لهم الأهلیّة و الصلاحیّة لإدارة ما علی مسؤلیّتهم في العالم لكي
یستطیعون أن یكونوا من الدعاة للدفاع عن حقوق الإنسان بصورة عامّة و لیست فقط
للأقربون.  

و لیس المقصودین في
الآیة المذكورة أولئك الذین لا أن یكونوا قد شمّوا رائحة الإنسانیّة و لا أن ذاقوا
السعادة، بل إنَّ سعیُهُم و هدفُهُم هو إرتكاب الجرائم و الجنایات و نشر الفساد في
الأرض و أبرز النموذج لذلك هم أولئك 
المجرمین الذین یرتكبون تلك الجرائم البشیعة في غزّة و العراق و غیرها من
البلاد و لیس عندهم أيِّ أحساس بالرحمة حتي و لا للأطفال النساء الأبریاء. 

نسأل الله تبارك و تعالی التوفیق
أن یمُنَّ علینا جمیعًا بالهدی و التوفیق لطاعته و التوجـُّه إلیه جلَّ وعلا بقلبٍ
سلیم ملیئٌ بالحبّ والإیمان و العمل الصالح في سبیله تبارك وتعالی آمین یا ربِّ
العالمین السلام علیكم و رحمة الله و بركاته.    
   

اترك تعليقاً

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Post comment