صلاة الجمعة

        الخطیب: مقامة مِن قِبَل مُدیر المركز و إمام المسجد آیة
الله الدكتور رضا الرمضاني

25.12.2015   بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله ربّ العالمین و الحمد لله
الذي لا مُضادّ له في مُلكه و لا مُنازِعَ لَهُ في أمره، الحمدالله الذی لا شریك
لَهُ في خلقه و لا شبیهَ لَهُ في عَظَمَتِه جزء
من دعاء الإفتتاح وصلّی الله علی سیّدنا و نبیّنا محمّد
صلّی الله علیه وعلی آله الطیبین
الطاهرین و أصحابه المنتجبین.  

عباد
الله أُوصیكم و نفسي بتقوی الله و اتّباع امره و نهیه.

إنَّ ما نراه في القرآن
الكریم هو بیان أنَّ الهدف من خِلقة الإنسان لیست إلّا عبادة المولی العزیز القدیر
تبارك و تعالی و أنَّ الإنسان العابد الصادق یتوسّم بخیر الصفات مثل الحكمة و
العلم و الأخلاق الحسنة و هَلُمَّ جرّا. و لكن یجب علی الإنسان أن یسعی للتقدُّم في
هذا المسیر و أن یتصرّف في العبادة بالمعرفة و أن یجعل أيِّ عملٍ یقوم به في هذا
النطاق هو التقرُّب إلیه جلّ و علا، كما نری بیان ذلك في قوله تعالی: « یا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ وَ
الَّذينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون‏ » و في
آیةٍ أخری یقول سبحانه و تعالی: « وَ ما خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون » إنَّ التوافق بین
الأمور المادّیّة و المعنویّة التي لكلٍّ منها نشأتها الخاصّة بها، هي التي یمكن
أن توصِّل الإنسان إلی رتبة  عاليَة و
یرتقي به إلی أن  یكون في زمرة أحسن
المخلوقات لینال لیاقة كونه الخلیفة و الولایة 
الإلهیّة. وما لا شك فیه هو  أنَّ
الوصول إلی هذه المرتبة لا یكون إلّا عن طریق كون الإنسان عبداً مخلِصًا صالحًا.

حق
الصلاة:

إنَّ معرفة مكانة أيِّ نوعٍ من العبادات لإعطائها مكانتها
الخاصّة بها هو من الضروریّات المهمّة جدًّا و لذلك فإنَّ الإمام السجّاد الذي هو مشهورٌ
بزین العابدین و سیّد الساجدین یشرح حقوق الأفعال العبادیّة و أوّل هذه الحقوق هوـ
حقّ الصلاة ـ، إذ أنَّ الصلاة هي الأكبر و الأجمع من العبادات و ما نراه في
الآیات و الروایات الكثیرة هو أنَّ مكانتها علی رأس الأمور العبادیّة. و لذلك نری
أنَّ كلّ الأنبیاء كانوا یهتمّون بالصلاة قربةً إلی الله تبارك وتعالی أكثر من
أيِّ أمرٍ من الأمور كما نری بیان ذلك عندما سمع النبيّ موسی بن عمران الذي من
أولو العزم من الأنبیاء كلام الله عزّ و جلّ، ما جاء في قوله تعالی :« وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى إِنَّني‏ أَنَا اللَّهُ
لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْني‏ وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْري »

فإنَّ الصلاة إذَن هي لذكر الله جلّ و علا و الإطمئنان إلیه
كما نری بیان ذلك في قوله تعالی : «أَلا
بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب‏» و للتمتُّع بالصلاة الحقیقیّة
یجب مراعاة الأمور الستّة التي ذَكرَها أحد العماء الكبار الذي هو المرحوم الفیض
الكاشاني في كتاب « الحقائق » و هي: 1ـ حضور القلب 2ـ التفهُّم
3ـ التعظیم 4ـ الهیبة 5ـ الرجاء 6ـ الحیاء.

و
من جملة الأمور التي تهیّئ حضور القلب للإنسان هي « علوّ الهمّة » و
الإهتمام بالآخرة و أخذ العبرة من قوله تعالی : « إِنَّ
الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُون » كما وجاء
في آیة أخری تفضیل الآخرة علی الدنیا في قوله تعالی: « وَ
الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَ أَبْقى » و قال أمیر المؤمین عليّ ع : « بأنَّ الدنیا هي دارُ ممرٍّ و أنَّ الآخرة هي دار المقرّ
»                                                                                                                                                                      

فمن
بعد حضور القلب یجب علی الإنسان أن یهیّئ ذهنه و أفكاره لإدراك المعنویّات العالیة
و السیطرة علی ما یصدر من لسانه. و بهذا التوجیه یسعی الإنسان إلی دفع الأمور
الدنیویّة إلی المجال الجانبيّ و التمركز للتوجُّه إلی أنّ الإنسان لا یعزب عن علم
الله تبارك و تعالی حتّی و لا لطرفة عینٍ و لاأقلّ من ذلك فلیرعی الأصول و الآداب
في محضره جلّ و علا، و منبع هذا التعظیم هي المعرفة، إذ أنَّ معرفة الإنسان لعظمته
و جَلاله سبحانه و تعالی و صِغَرِ نفسه هي التي تؤدّي بالإنسان إلی التوسُّم
بالخشوع و الخضوع أمامه عزّ و جلّ و في هذه الحالة یحسُّ الإنسان « بالتعظیم  له جلّ و علا » و هذه الحالة هي التمهید
للمزید من معرفة قدرته التي لا حدّ و لا حدود لها تبارك و تعالی. و كذلك الأمر
فیما یخصُّ معرفة أن لا نهایة لألطافِه و كرمِه جلّ و علا و هكذا تحصل عند الإنسان
الآمال ،ي وسعة کرمه و الرجاء لعفوه و مغفرته 
تبارك و تعالی.

و
ما نستنتجه من كلّ هذه البیانات هو إستحیاء الإنسان تجاه المولی العزیز الرؤف. و
الإنسان الذي یكون قد توصّل إلی هذه المرحلة یكون من الذین یسعون بكلّ ما في
وسعِهِم بالرغم من أنّهُم یرون عیوب و نقائص أنفسِهِم حین یقیمون الصلاة و یستحیون
من الباري عزّ و جلّ و أنّه لیس في وسعهم أداء واجباتهم تجاهه تبارك و تعالی كما
هو شأنه و لكنَّهم یؤدّونها بأعلی ما یتوصّلون إلیه کالإنسان العابد الصالح و لا
یعزب عنهم إحساسهم بالعجز عن أداء ذلك بالکمال و لکنّهُم لا یفقدون الأمل في كرمه
جلَّ وعلا الذي هو أكرم الأكرمین.  إنَّ
أهمّیّة هذه الواجبات أمام الله تبارك و تعالی هي أنَّ الذي إستُشهِدَ تكون أوّل
الأسئلة التي توجّه إلیه في یوم الحساب هي ألف سؤالٍ عن واجبات الصلاة و ثلاثة
آلاف سؤال عن مستحبّات الصلاة و تُجمع الأجوبة علیها في كتابین هما كتاب «الألفیّة»
و كتاب «النفلیّة».  

و
یُبَیِّن الإمام السجّاد ع ما یخصُّ الحقّ الفعلي للصلاة في بیانه :
« فَأَمَّا حَقُّ الصَّلَاةِ فَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّهَا وِفَادَةٌ إِلَى اللَّهِ
وَ أَنَّكَ قَائِمٌ بِهَا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ كُنْتَ
خَلِيقاً أَنْ تَقُومَ فِيهَا مَقَامَ الذَّلِيلِ الرَّاغِبِ الرَّاهِبِ
الْخَائِفِ الرَّاجِي الْمِسْكِينِ الْمُتَضَرِّعِ الْمُعَظِّمِ مَنْ قَامَ بَيْنَ
يَدَيْهِ بِالسُّكُونِ وَ الْإِطْرَاقِ‏ وَ خُشُوعِ الْأَطْرَافِ وَ لِينِ
الْجَنَاحِ وَ حُسْنِ الْمُنَاجَاةِ لَهُ فِي نَفْسِهِ وَ الطَّلَبِ إِلَيْهِ فِي
فَكَاكِ رَقَبَتِكَ الَّتِي أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُكَ وَ اسْتَهْلَكَتْهَا
ذُنُوبُكَ وَ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.»

فلو إن عرف الإنسان حقّ
الصلاة كما بیّنها الإمام السجّاد ع وسعی لأدائها بأحسن و أكمل ما في وسعه، فسوف
ینال بالتدریج آثارها الدنیویّة و الأخرویّة الفردیّة والإجتماعیّة الجسمیّة و
الروحیّة و یتمتّع بها. و الأمر المهمّ جدًّا هو أداء العبادات بالشروط التي ذُكرَت،
لكي ینال الإنسان تلك الآثار و المتاع في الدنیا و الفوز بالجنّة في الآخرة.  

إنَّ
الآثار التي یحسُّ بها الإنسان في الصلاة من قبیل الإحساس بحضوره أمام الباري جلّ
و علا الذي لا تعزب عنه صغیرة و لا كبیرةٍ و الإحساس بالطمأنینة و السكینة و ترك
للأنانیّة و عُجب النفس، هي الأمور التي تهیّئ المُصَلّي للتوسُّم بالتواضع
وتعمُّق رغبته في طاعة المولی العزیز القدیر و إحیاء طلب الحقّ في نفسه و العمل
به.

و
من آثار الصلاة هي الإحساس بقبول المسؤلیّة تجاه الآخرین، و لذلك هنالك التحفیز
التأكید الحثیث للمصلّین بأداء الصلاة في الجماعة و الإلتزام بالمشاركة في صلاة
الجمعة ، لكي یتلاقی المؤمنون مرارًا و تكرارًا في كلّ یوم و في كلّ أسبوع
لیتبادلوا آراءهم و یتعاونوا في حلّ مشاكلهم.  

و
الأمر المهمّ الذي یجب أن نتوجّه إلیه هو أنَّ علی المؤمنین أن یؤدّوا هذا الواجب
الإلهيّ بأحسن ما في وسعِهم لإحیاء الخضوعٍ و الخشوع في أنفسهم، و لكي یتمتّعوا
بالآثار و البركات التي تجلبها الطاعة بالخلوص و الإخلاص إلیهم و التوصُّل إلی هذا
المقام العالي.

كما
و أنَّ دراسة الحكمة و الفلسفة في الأحكام الإلهیّة و آداب الصلاة و القیام بها في
أماكنها الخاصّة بها مهمٌّ جدًّا، لكي نعمل بها بعیدًا عن المشوِّهات و المشاغل
التي تُخلخِل التركیز في الصلاة، مثل أدائها في الطُّریق و المسیر، كما و یُفَضَّل
القیام بالمستحبّات و أداء حقوق الصلاة بأكمل و أجمل ما في وسعنا.

نهایة
الخطاب:

و
في نهایة الخطاب أودّ أن أذكر لكم ما نُقِل عن رسول الله ص فیما یخصُّ آثار
الصلاة ،في ما یخصُّ غفران الذنوب و تزكیة الإنسان و تطهُّره لنسعی جمیعًا للتمتّع
بها، و الروایة هي :  « عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص ‏: لَوْ كَانَ عَلَى بَابِ دَارِ أَحَدِكُمْ نَهَرٌ
فَاغْتَسَلَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْهُ خَمْسَ مَرَّاتٍ، أَكَانَ يَبْقَى فِي
جَسَدِهِ مِنَ الدَّرَنِ شَییٌ؟  قُلْنَا
لَا، قَالَ فَإِنَّ مَثَلِ الصَّلَاةِ كَمَثَلِ النَّهَرِ الْجَارِي كُلَّمَا
صَلَّى صَلَاةً كُفَّرَتْ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الذُّنُوبِ. »

نرجو الله تبارك و تعالی أن یمنّ علینا جمیعًا
بالتوفیق لفهم المعارف الدینیّة الإسلامیّة ونسأله
جلَّ وعلا أن یُوَفِّقنا للتعمُّق في خشیته و طاعته  بالرغبة و المحبّة له و لأولیائه علی عتبة
رحمته و أن نكون خَلوقین محسنین تجاه الآخرین من عباده و أن نحمده و نشكره علی
كلِّ ما وهبنا من الهُدی وأن نهتمّ بكلِّ ما في وسعنا لمعرفة سبیل الرشاد والعمل
الصالح و هو وليُّ كل توفیقٍ و له الحمد و الشكر علی كلّ النِّعَم.

                                                          
                 

والسلام علیكم و رحمة
الله وبركاته 

اترك تعليقاً

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Post comment