بسم
الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين و الحمد لله الذی لا مُضادّ له في مُلكه و
لا مُنازِعَ لَهُ في أمره. الحمدالله الذی لا شريك لَهُ في خلقه ولا شبيه لَهُ في
عَظَمَتِه جزء من دعاء الإفتتاح وصلّی الله علی سيدّنا و نبيّنا محمّد صلّی الله
عليه و علی آله الطاهرين و اصحابه المنتجبين.

 عبادالله ! أُوصيكم و نفسي
بتقوی الله و اتّباع امره و نهيه.

الموضوع: أوصاف المتّقين 18

الفضیلة
الخامسة عشر: التجارة الإلهية المربحة

– “صَبَرُوا أَيَّاماً قَصِيرَةً
أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِيلَةً؛ تِجَارَةٌ مُرْبِحَةٌ يَسَّرَهَا لَهُمْ
رَبُّهُمْ”.

من
فضائل أهل التقوى التي وردت في كلام أمير المؤمنين ع تجارتهم المربحة, فهم
يصبرون على المشاكل خلال هذه المدّة القصيرة حتّى يحظوا براحة طويلة. ويجدر هنا
الوقوف على عدّة نقاط في كلام أمير المؤمنين ع :

1-
عدم طول الحياة الدنيا

يرى
أمير المؤمنين ع أنّ طول حياة الإنسان في هذه الدنيا قصير جدّا, حيث أنّ المتقين
يحصلون على الراحة والاطمئنان في الحياة الأخروية الخالدة من خلال الصبر في هذه
المدة القصيرة. فعدم طول الحياة في الدنيا أمر يُدركه جميع الناس. وكل من وصل إلى
منتصف عمره وكبر في السن قد أدرك سرعة مرور الأيام. 

2. الصبر في الحياة

لقد
تكلم الإمام علي ع عن الصبر في الحياة الدنيا, ولكن ما هو مراده؟ ورد في الخبر
أنّ أمير المؤمنين ع ينقل عن النبي الأكرم ص أنّه قال:


“الصَّبْرُ ثَلاَثَةٌ، صَبْرٌ عِنْدَ الْمُصِیبَةِ؛ وَ صَبْرٌ عَلَی
الطَّاعَةِ؛ وَ صَبْرٌ عَنِ الْمَعْصِیَةِ”[1].

إنّ
الإنسان المتّقي يتوكل على الله في كل واحد من مواضع الصبر هذه بتحمل المشاكل التي
تُثقل كاهلَه, ولا يصل به المطاف إلى اليأس من الرحمة الإلهية أو الكفر بالنعم
الإلهية.

3.
التجارة بالعمر

إنّ
تعبير التجارة والتعابير المرادفة له قد وردت في القرآن الكريم بكثرة بخصوص
الحياة الدنيوية للأشخاص المحسنين والمسيئين: 


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ
مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ؛ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ؛ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ
ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ؛ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ
وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}[2].

يتكلم
الله سبحانه في هذه الآيات عن التجارة التي تنجي الأفراد الصالحين من العذاب
المهول, وهذه التجارة تكون من خلال الإيمان بالله والمضي في طريقه, وبالتالي تكون
نتيجة هذه التجارة المغفرة الإلهية والفوز بالجنة والقرب من الله سبحانه.

– {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ
وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ
تَبُورَ؛ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ
غَفُورٌ شَكُورٌ}[3]. 

في
هذه الآيات تمت الإشارة إلى التجارة الدائمة الأبدية, حيث أنّ الأفراد الصالحين
يحصلون على الثواب الإلهي غير المحدود بسبب تلاوتهم للقرآن وإقامتهم للصلاة
ومساعدة سائر الأفراد في المجتمع.

يوجد
آية في القرآن الكريم نزلت بسبب تضحية أمير المؤمنين ع , وذلك عندما بات على فراش
النبي ص وعرّض نفسه وروحه للخطر. وبالعودة إلى التعبير المستعمل في هذه الآية
نرى أنّه يرجع إلى المعاملة مع الله عندما يقول:


{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ
وَاللَّهُ رَؤوفٌ بِالْعِبَادِ}[4].

ومن
جهة آخرى نرى أنّ القرآن قد جاء بنفس تعبير التجارة في حقّ الأفراد الطالحين
والكفار الذين قد انتخبوا طريق النفاق والضلالة:

– {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى
فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}[5].

إنّ
تعبير الخسران الوارد في الآيات القرآنية كذلك يكون من توابع مسألة التجارة
والمعاملة مع الله. يقول القرآن الكريم في حق الكفار:

– {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ
كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[6].

ونشاهد
أنّه قد استخدم نفس التعبير أيضاً في حق جميع الناس الذين كانت حياتهم مفعمة
بالإيمان والعمل الصالح عندما يقول:


{إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ؛ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}[7].

البعض
يرى أنّ القرآن قد أكثر الاستفادة من هذا التعبير بسبب ارتكازه في ثقافة مجتمع عصر
النزول, ففي عصر النبي ص كانت مدينة مكة مركزاً للتجارة, وكان أهلها جميعاً
تجّاراً يشترون ويبيعون, ولهذا أشار القرآن الكريم إلى ما يريده من خلال هذا
التعبير, الأمر الذي يُدلّل على أنّ القرآن يُراعي ثقافة المجتمع ويقف عليها.

وللجواب
على هذا نقول أوّلاً: بأنّ جميع الناس وفي كل
الأزمنة والأمكنة قد عمدوا إلى تدبير أمور معاشهم بواسطة المعاملة والبيع والشراء,
وما زالوا مستمرين على ذلك. فلم تنحصر التجارة بمرحلة معينة من حياة البشر فقط, لا
قبل عصر النبي ص ولا بعده. وقد بُينت حقائق الحياة الدنيوية بهذا التعبير حتّى
تكون قريبة للناس وقابلة للفهم والوقوف عليها أكثر.

ثانيا: لقد كان نصف عصر النبي ص بعد الهجرة, وقد نزل
قسم كبير من القرآن في المدينة, وقد كان غالبية المجتمع يعمل في الزراعة حينها,
وبناءً على تأثّر القرآن بثقافة المجتمع الموجودة كان ينبغي أنّ يُستخدم في الآيات
والسور المدنية تعابيراً تتلاءم أكثر مع الزراعة بدلاً من التجارة.

والحمد لله ربّ
العالمين

 

 

[1]  الکافي؛ ج 2، ص 75.

[2]
 سورة الصف: الآية 10-۱۳.

[3]
 سورة فاطر:الآية 29-۳۰.

[4]
 سورة البقرة: الآية 207.

[5]
 سورة البقرة, الآية 16.

[6]
 سورة الزمر, الآية 63.

[7]
 سورة العصر: الآية 2-3.

اترك تعليقاً

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Post comment