صلاة الجمعة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين و الحمد لله الذی لا مُضادّ له في مُلكه و
لا مُنازِعَ لَهُ في أمره. الحمدالله الذی لا شريك لَهُ في خلقه ولا شبيه لَهُ في
عَظَمَتِه جزء من دعاء الإفتتاح وصلّی الله علی سيدّنا و نبيّنا محمّد صلّی الله
عليه و علی آله الطاهرين و اصحابه المنتجبين.

عبادالله ! أُوصيكم و نفسي
بتقوی الله و اتّباع امره و نهيه.

الموضوع: أوصاف المتقين 22

الفضیلة
التاسعة عشر: الاستشفاء بالقرآن

– “یَحَزُنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ،
وَیَسْتَثِیرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِم”.

لقد كانت الفضيلة الثامنة عشر التي
تكلمنا عنها سابقاً أنس أهل التقوى بالقرآن وترتيل المتقين له. والآن يشير الإمام
عليه السلام في الفضيلة التاسعة عشر إلى الاستشفاء بواسطة القرآن. وعليه طبقاً
لكلام أمير المؤمنين ع فإنّ تعامل أهل التقوى مع القرآن هو بمثابة نسخة
الاستشفاء التي يطالعها الإنسان المحتاج بلهفة ودقّة لعلاج أمراضه. فهكذا شخص
عندما يصل إلى كلّ آية يعيش حالة أنّ الآية تنزل عليه الآن, وهو المخاطب في هذه
الآية, لذلك يكمل الإمام ع كلامه في بيان أحوال هؤلاء الأفراد أثناء تلاوتهم
للقرآن ويقول:

– “فَإِذَا مَرُّوا
بِآیَةٍ فِیهَا تَشْوِیقٌ رَکَنُوا إِلَیْهَا طَمَعاً وَتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ
إِلَیْهَا شَوْقاً وَظَنُّوا أَنَّهَا نُصْبُ أَعْیُنِهِم”.

إنّ أهل التقوى عندما يقرأون آية قد
شوّق الله الناس فيها تحصل لديهم حالة طمع, وذلك كالآيات التي تعد بالجنّة وتُعدّد
نعمها, والتي وعد الله فيها أنّ إذا أديتم الواجبات واجتنبتم عن المحرمات لن تصلوا
إلى هذه النعم أبداً, فيحصل للمتقين أنّهم يطمعون بالوصول إلى هذا المقام بتمسّكهم
بتقوى الله.

– “وَإِذَا
مَرُّوا بِآیَةٍ فِیهَا تَخْوِیفٌ أَصْغَوْا إِلَیْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ
وَظَنُّوا أَنَّ زَفِیرَ جَهَنَّمَ وَشَهِیقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِم”.

كذلك عندما يقرأون آية فيها تخويف
وتهديد, قد خوّف الله فيها الناس من مخالفتهم لأوامره, فهؤلاء الأشخاص يتوجهون
بقلوبهم إلى هذه الآية حتّى يروا ماذا يُريد أن يقول, فيدخل هذا الكلام إلى مسامع
قلوبهم, ويخافون أن يصلهم العذاب في حال لم تُبعدهم التقوى عن الوقوع في الذنب.

– “فَهُمْ
حَانُونَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ مُفْتَرِشُونَ لِجِبَاهِهِمْ وَأَکُفِّهِمْ
وَرُکَبِهِمْ وَأَطْرَافِ أَقْدَامِهِم”.

وعليه ماذا يفعل الإنسان المصلّي؟ يقف
أوّلاً على قدميه, ثم ينزل للركوع, ويحني ظهره, ثم بعدما يرفع رأسه من الركوع يهوي
للسجود, فيضع ركبيته وأطراف أصابعه على الأرض ويسجد. وهذا يُدلّل على أنّ أهل
التقوى يعيشون حالة الصلاة مع قراءتهم للقرآن ويصلون إلى محضر الله سبحانه وتعالى.

– “یَطْلُبُونَ
إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي فَکَاکِ رِقَابِهِم”.

فالمتقون يعبدون الله ويطلبون منه
التحرّر ممّا لا يُريده الله أن يقعوا به.

سرّ حزن
أهل التقوی

إنّ ابتعاد الإنسان عن محضر الله وعدم
وصوله للمقام اللائق به يبعث على إيجاد الأسى والحزن في قلوب أهل التقوى والمعرفة,
والذي يكون تحمّله على حدّ تعبير أمير المؤمنين ع أشد من عذاب نار جهنم:

– “فَهَبْنِي يَا
إِلهِي وَسَيِّدِي وَمَوْلاَيَ وَرَبِّي، صَبَرْتُ عَلَىٰ عَذَابِكَ، فَكَيْفَ
أَصْبِرُ عَلَىٰ فِرَاقِكَ”.

وهكذا ومن خلال هذا الأسى والحزن يمكن
فهم أسرار بكاء رسول الله والأئمة الأطهار عليهم السلام بسبب معرفهم بالله
سبحانه.إنّ الإنسان الذي يطوي مراحل السلوك إلى الله ويصل إلى مقام لقائه, يبقى
قلبه مهموماً ومضطرباً كي لا يُفرّط بلذة الوصال هذه, ويرجع إلى حالة الفراق
مجدّدا.

وعليه فطالما لم يصل العارف السالك
إلى المعشوق ستظل غصّة الفراق متلازمة مع أمل الوصال, إلاّ أنّ الاضطراب الحاصل في
مقام الوصال وقرب روح العارف يلازمه ويدخله في كابوس يُعذّبه ويطيح بأمله هذا
جانباً, ولهذا يكون مؤلماً أكثر له.

ومن هنا فإنّ انزلاق الإنسان وسقوطه
كلّما كان من مرتبة أعلى من سلّم المعرفة سيكون مهيباً أكثر. يُعرّفنا القرآن
الكريم على بلعم بن باعورا أنّه قد وصل إلى مقام استجابة الدعوة, ولكنّه وقع في
شراك غواية الشيطان وهوى برأسه على الأرض:

– {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا
فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ}[1].

وعليه نصل إلى أنّ الإنسان المتقي
يبقى قلقاً ومضطرباً من هذا الخطر الكبير الذي يتهدّده, وهذا الكلام المنسوب للنبي
الأكرم ص مع ما عليه من الإشكالات في نسبته للنبي : “النَّاسُ
كُلُّهُمْ مَوْتَى إِلا الْعَالِمُونَ، وَالْعَالِمُونَ كُلُّهُمْ هَلْكَى إِلا
الْعَامِلُونَ، وَالْعَامِلُونَ كُلُّهُمْ غَرْقَى إِلا الْمُخْلِصُونَ،
وَالْمُخْلِصُونَ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ”.

وفي الأخير نصل إلى أنّ معنى حزن
النفس مع القرآن الكريم أنّه يمنع أهل التقوى عند تلاوتهم للقرآن والتدبر في
معانيه من الغفلة ونسيان أنفسهم, ويبقي كذلك على الحزن قبل الوصال وبعده حيّاً في
قلوبهم.

والحمد الله رب العالمين

[1]  سورة الأعراف:الآية ۱۷۵.

اترك تعليقاً

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Post comment