صلاة الجمعة

خطبة صلاة الجمعة في مسجد الإمام عليّ (ع) في هامبورغ

مُقامة مِن قِبَل مُدیر المركز و إمام المسجد

 سماحة الدكتور الشيخ هادي مفتح

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين و الحمد لله الذی لا مُضادّ له في مُلكه و لا مُنازِعَ لَهُ في أمره. الحمدالله الذی لا شريك لَهُ في خلقه ولا شبيه لَهُ في عَظَمَتِه (جزء من دعاء الإفتتاح) وصلّی الله علی سيدّنا و نبيّنا محمّد صلّی الله عليه و علی آله الطاهرين و اصحابه المنتجبين.

 عبادالله ! أُوصيكم و نفسي بتقوی الله و اتّباع امره و نهيه.

الموضوع: أوصاف المتقين (27)

الفضیلة الرابعة والعشرون: الابتعاد عن العجب

– “لَا يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْقَلِيلَ وَ لَا يَسْتَكْثِرُونَ الْكَثِيرَ، فَهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ مُتَّهِمُونَ وَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ مُشْفِقُونَ“.

يبتعد المتّقون عن الإعجاب والاغترار بأنفسهم. ففي كل عمل خير يأتون به يكونون مراقبين لأنفسهم حتّى لا يوصِلُهم هذا العملُ للعجب بحالهم. فلا ترضيهم أعمال الخير الصغيرة, كما لا ينظرون لما يأتون به من أعمال خير كبيرة.

أسباب إيجاد وتقوية الغرور

1- إنّ الذين يأتون بالأعمال الحسنة يكونون معرّضين أكثر من الآخرين للوقوع في شراك الغرور والعجب بأنفسهم. فيتصورون أنّهم يأتون بالأعمال الحسنة وحدهم دوناً عن الآخرين, فيتفشّى الغرور والتكبّر في داخلهم. وهكذا يلتجأ المتّقون والناس الأحرار من خوفهم إلى الله سبحانه لتبديد هذا القلق المهيب. يطلب الإمام السجاد (ع) من الله سبحانه وتعالى أن يجعله يستقلل أعماله الحسنة ويستكثر أعماله السيئة:   “اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَی مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ، وَ حَلِّنِي بِحِلْیةِ الصَّالِحِینَ، وَ أَلْبِسْنِي زِینَةَ الْمُتَّقِینَ، فِی بَسْطِ الْعَدْلِ، وَ کظْمِ الغَیظِ، … وَ الْقَوْلِ بِالْحَقِّ وَ إِنْ عَزَّ، وَ اسْتِقْلَالِ الْخَیرِ وَ إِنْ کثُرَ مِنْ قَوْلِي وَ فِعْلِي، وَ اسْتِکثَارِ الشَّرِّ وَ إِنْ قَلَّ مِنْ قَوْلِي وَ فِعْلِي[1].

2- من الطبيعي أنّ من يتحلّى بصفات إيجابية في شخصيّته يكون من أهل الخير, فيُراعي حقوق الناس, ويبتعد عن المعصية, وينأى عن الكذب والغيبة, ويكون من أهل العبادة, يُعتمد عليه, أمين, و…. والناس في المجتمع يُقدّرون هكذا إنسان, فيحترمونه, ويُكرمونه في جميع الأماكن, و… وهكذا فإنّ جميع هذه الأمور تُقوّي العجب والغرور في قلب هكذا أشخاص. من هنا يلتجأ الإمام السجاد (ع) إلى الله سبحانه ويطلب منه:

– “اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَی مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ، وَلَا تَرْفَعْنِي فِی النَّاسِ دَرَجَةً إِلَّا حَطَطْتَنِي عِنْدَ نَفْسِي مِثْلَهَا، وَلَا تُحْدِثْ لِي عِزّاً ظَاهِراً إِلَّا أَحْدَثْتَ لِي ذِلَّةً بَاطِنَةً عِنْدَ نَفْسِي بِقَدَرِهَا[2].

3- إنّ استصغار الذنوب والمعاصي التي تصدر من الأشخاص المحسنين, والتطلّع إلى قيمتها القليلة مقابل ما قد جاؤوا به من أعمال حسنة, يستوجب تقوية الشعور بالعجب والغرور عند هؤلاء الأشخاص. ولكن في نظر أهل التقوى, فإنّ الذنب مهما صغر يكون كبيراً بسبب كونه معصية لله سبحانه وتعالى, ولا يمكن عدّه صغيرا, بل إنّ استصغار الذنب يُساوق الجرأة على المعصية والإتيان بالذنوب الكبيرة. يقول أمير المؤمنين (ع): 

– “أَشَدُّ الذُّنُوبِ مَا اسْتَخَفَّ بِهِ صَاحِبُهُ[3].  

ولأجل هذا من صفات أهل التقوى التي يذكرها أمير المؤمنين (ع) في كلامه هنا في خطبة المتقين «فَهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ مُتَّهِمُونَ وَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ مُشْفِقُونَ».

خطر العجب

إنّ الخطر الكبير الذي يتهدّد أهل التقوى من العجب والغرور هو سقوطهم من مرتبة القرب الإلهي الكبيرة. وكم حصل أن شهدنا أشخاصاً كثيرين على مرّ التاريخ قد بلغوا المقامات المعنوية الكبيرة وحظوا بالقرب الإلهي, ولكن بسبب الغفلة عن وساوس الشيطان التي تخدع كل شخص بما يتناسب مع مقامه سقطوا وابتلوا بالمعاصي من جديد. يقول القرآن الكريم: 

– {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ}[4]

هذا وقد جاء في الرواية المنسوبة للنبي الأكرم (ص) «هَلَكَ النَّاسُ إلاَّ الْعاَلِمُونَ، وَهَلَكَ الْعَالِمُونَ إلاَّ الْعَامِلوُنَ، وَهَلَكَ الْعَامِلُونَ إلاَّ الْمُخْلِصُونَ، وَالْمُخْلِصُونَ عَلٰى خَطَرٍ عَظِيمٍ».

طريق قرب أفضل من عمل الخير

إنّ الإتيان بأعمال الخير يُشكّل طريق القرب من الله سبحانه, ولكن يُوجد طريق مختصر أكثر, لا بل أسرع ويوصل الإنسان بطمأنينة أكبر لله, ويُبعده عن خطر العجب والغرور كذلك, يقول الرسول الأكرم (ص):

– “یَا عَلي! إذَا تَقَرَّبَ النّاسُ إلَی خَالِقِهِمْ بِأنْوَاعِ البِرِّ فَتَقَرَّبْ أنْتَ إلَیْهِ بِالعَقْلِ حَتّی تَسْبِقَهُمْ[5].

والحمد الله ربّ العالمين


[1]  الصحیفة السجادیة، دعاء مکارم الأخلاق.

[2]  الصحیفة السجادیة، دعاء مکارم الأخلاق.

[3]  نهج البلاغة، الحکمة 474.

[4]  سورة الأعراف:الآية ۱۷۵.

[5]  الوافي ج۱،ص۱۰۲.

اترك تعليقاً

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Post comment