صلاة الجمعة

خطبة صلاة الجمعة في مسجد الإمام عليّ (ع) في هامبورغ

مُقامة مِن قِبَل مُدیر المركز و إمام المسجد

سماحة الدكتور الشيخ هادي مفتح

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين و الحمد لله الذی لا مُضادّ له في مُلكه و لا مُنازِعَ لَهُ في أمره. الحمدالله الذی لا شريك لَهُ في خلقه ولا شبيه لَهُ في عَظَمَتِه (جزء من دعاء الإفتتاح) وصلّی الله علی سيدّنا و نبيّنا محمّد صلّی الله عليه و علی آله الطاهرين و اصحابه المنتجبين.

 عبادالله ! أُوصيكم و نفسي بتقوی الله و اتّباع امره و نهيه.

الموضوع:  أوصاف المتّقین (32)

العلامة الرابعة للمتقين:

– “وَحِرْصاً فِی عِلْم“.

   نصل الآن إلى العلامة الرابعة للمتقين التي أشار إليها أمير المؤمنين (ع) في كلامه, وهي شغف المتقين إلى حدّ كبير جدّا بالمعرفة والعلم, وقد تمّ التعبير عنه بالحرص. ويقصد بالحرص التعلّق القلبي الشديد والزائد عن حدّه, والذي يكون عادة مرادفاً ومساوقاً للطمع والشره, ويُعدّ من الرذائل الأخلاقية.

   والآن يطرح هذا السؤال نفسه, كيف يرى أمير المؤمنين (ع) الحرص علامة للمتقين؟

والجواب يتلخص في أنّه لدينا نوعان من الحرص: حرص ممدوح ومقبول, وحرص مذموم غير مقبول.

الحرص الممدوح

   إنّ الشغف الكثير الزائد عن الحد مطلوب للإتيان ببعض الأعمال. فالإنصاف, وقول الصدق والمصداقية, ومساعدة الناس المحتاجين, وإعانة الفقراء والمساكين, مضافا للأعمال الاجتماعية والفردية كلّما كانت أكثر كانت مقبولة.

   كما أنّ من حَرِصَ على تحصيل العدالة والإنصاف والتقوى واجتناب المعاصي والابتعاد عن التصرفات الاجتماعية الشاذة من المؤكد أنّه سيحظى برضا جميع الناس. فلن يأتي أحد ويذم شخصاً آخر بسبب كثرة الإنصاف أو التقوى.

   إنّ الحرص من أجل هداية الناس يكون من هذا القبيل. وهو من الصفات التي قد وصف الله سبحانه رسوله (ص) في القرآن الكريم عندما قال:

– {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[1].

   ولقد أشار الله في آية أخرى من القرآن الكريم إلى حرص رسول الله  لهداية الناس. يقول الله جلّ وعلا:

– {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}[2].

   إنّ الحرص في العشق الإلهي أمر ممدوح ومقبول. ومن يقع في طريق محبة الله سبحانه كلّما يمضي قدماً وبسرعة أكبر سيصبح متعطّشاً أكثر فأكثر.

الحرص المذموم

   إنّ الحرص والإتيان ببعض الأعمال أكثر من الحد اللازم يكون مذموما. فالحرص في جمع النعم الدنيوية والاستفادة منها يكون من هذا القبيل. وعليه فإنّ السعي في تأمين احتياجات الحياة وتحصيل الراحة للعائلة يكون من الأمور المقبولة, وقد ورد في الروايات “قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ : مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ: الْجَارُ الصَّالِحُ ، وَالْمَرْكَبُ الْهَنِيءُ ، وَالْمَسْكَنُ الْوَاسِعُ[3].

   ولكن نفس هذه الاستفادة من الأمور الدنيوية عندما تصل إلى درجة الزيادة والحرص ستصبح مذمومة. يقول الإمام الصادق عليه السلام:

– “مَثَلُ الحَرِیصِ عَلَی الدُّنیا مَثَلُ دُودَهِ القَزِّ کُلَّما ازدَادَت مِنَ القَزِّ عَلَی نَفسِها لَفّاً کانَ أبعَدَ لَها مِنَ الخُرُوجِ حَتّی تَموتَ غَمَاً[4].  

الحرص على العلم

   بناء على ما تقدّم نصل إلى أنّ العلم والمعرفة من الأمور التي يكون الحرص والإكثار منها مطلوباً ومقبولا. فكلما زاد علم ومعرفة والإنسان كان أفصل, كذلك فإنّ الجهل وعدم العلم غير مقبول كثيراً كان أم قليلا. فالجهل ليس من هذا القبيل إذا كان قليلاً أصبح مقبولا!   

   ولكنّ الحرص والإكثار من العلم يكون مقبولاً ما لم يقترن بنية الوصول للجاه والسمعة, أو التعلّق بمفاتن الدنيا. العلم يكون مقبولاً ما دام نافعاً ولم يُوصل إلى العجب. وإلّا فإنّ العلم الذي يترشّح منه العجب وحبّ الجاه والسمعة لا يكون مطلوباً حتّى المقدار القليل منه. كما أنّ العلم الذي لا يستفيد منه الإنسان أو مجتمعه لا يكون مقبولاً سواء كان كثيراً أم قليلا. والعلم الذي يُؤدّي إلى عجب الشخص بنفسه يكون مذموماً قلّ أم كثر. كذلك العلم الذي لا ينتج عنه العمل لا ينفع قليله فضلاً عمّا كثر منه.

   وعلى هذا الأساس وطبقاً لكلام أمير المؤمنين (ع) فإنّ الشوق للتعلّم علامة على التقوى, وعدم الرغبة للتعلّم علامة على عدم التقوى. فالمتقون حريصون على تحصيل العلم, ويُكمل أمير المؤمنين (ع) بعد ذلك حديثه في وصف ذلك العلم.

والحمد الله ربّ العالمين


[1]  سورة التوبة:الآية ۱۲۸.

[2]  سورة النحل:الآية ۳۷.

[3]  مسند أحمد بن حنبل، الحدیث 15409.

[4]  الکافي، ج2، ص316.

اترك تعليقاً

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Post comment