صلاة الجمعة

خطبة صلاة الجمعة في مسجد الإمام عليّ (ع) في هامبورغ

مقامة مِن قِبَل مُدیر المركز و إمام المسجد

 سماحة الدكتور الشيخ هادي مفتح

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين و الحمد لله الذی لا مُضادّ له في مُلكه و لا مُنازِعَ لَهُ في أمره. الحمدالله الذی لا شريك لَهُ في خلقه ولا شبيه لَهُ في عَظَمَتِه (جزء من دعاء الإفتتاح) وصلّی الله علی سيدّنا و نبيّنا محمّد صلّی الله عليه و علی آله الطاهرين و اصحابه المنتجبين.

 عبادالله ! أُوصيكم و نفسي بتقوی الله و اتّباع امره و نهيه.

الموضوع: أوصاف المتّقین (26)

الفضیلة الثالثة والعشرون: التكامل الروحي

– “يَنْظُرُ إِلَيْهِمُ النَّاظِرُ فَيَحْسَبُهُمْ مَرْضَى ومَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَضٍ ويَقُولُ لَقَدْ خُولِطُوا ولَقَدْ خَالَطَهُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ”.

يختلف أهل التقوى في السلوك الاجتماعي والكلام مع الآخرين, وهذا ما لا يُدركه الآخرون أحياناً, وينظرون إليه وفق معايير سلوكهم على أنّهم مجانين. ويتحقّق هذا الاختلاف والتكامل الروحي بثلاثة أمور:

1. العمل أكثر من اللازم

يبتعد الأشخاص العاديون عن الإتيان بالأعمال الصعبة والمجهدة ويسعون لاختيار الأعمال الأسهل, بيد أنّ أهل التقوى يتحمّلون مسؤولية هكذا أعمال ولا يتمنّعون عنها. يقول أمير المؤمنين (ع) في خطبة كميل عن الأشخاص الجديرين بحمل علوم أهل البيت: 

– “وَاسْتَلاَنُوا مَا اسْتَوْعَرَهُ الْمُتْرَفُونَ وَأَنِسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الْجَاهِلُونَ، وَصَحِبُوا الدُّنْيَا بِأَبْدَانٍ أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالْمَحَلِّ الْأَعْلَى[1].

2. انشغالهم بأنفسهم

لا يوجد إنسان غير المعصومين خالٍ من النقص. نعم البعض لديهم عيوب أقل من الآخرين, وعليه بناءً لما يحكم به العقل وما تُوجبه الأخبار يجب أن يشتغل الإنسان بإصلاح عيب نفسه بدل الانشغال بعيوب الآخرين, وهكذا يكون أهل التقوى حيث يشتغلون بإصلاح نفوسهم ولا يتركون مجالاً للنظر إلى عيوب الآخرين.

إنّ الذي ينشغل بإصلاح عيب نفسه لا يبقى له مجال للبحث عن عيوب الآخرين, وإذا أتيح له المجال سيخجل من النظر إلى عيوبهم. يقول أمير المؤمنين (ع) “مَنْ نَظَرَ فِي عَيْبِ نَفْسِهِ اشْتَغَلَ عَنْ عَيْبِ غَيْرهِ[2]. ويقول أيضاً: “طُوبَى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيبُهُ عَنْ عُيوبِ النَّاسِ[3].

يقول الإمام الصادق عليه السلام: “ثَلاثَةٌ فِى ظِلِّ عَرْشِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يوْمَ لا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ: رَجُلٌ أَنْصَفَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ؛ وَرَجُلٌ لَمْ يُقَدِّمْ رِجْلاً وَلَمْ يُوَخِّرْ رِجْلاً أُخْرَى حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ ذَلِکَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ رِضًى أَوْ سَخَطٌ؛ وَرَجُلٌ لَمْ يعِبْ أَخَاهُ بِعَيبٍ حَتَّى ينْفِى ذَلِکَ الْعَيبَ مِنْ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ لا ينْفِى مِنْهَا عَيباً إِلاَّ بَدَا لَهُ عَيبٌ آخَرُ؛ وَكَفَى بِالْمَرْءِ شُغُلاً بِنَفْسِهِ عَنِ النَّاسِ“.

طبعاً المقصود من كلا المعصومين هنا هو ترك البحث عن عيوب الآخرين, ولكنّ بيان عيوبهم أمر مقبول كثيراً لا بل واجب في الكثير من الموارد, حيث يدخل تحت عنوان النهي عن المنكر من أجل إصلاح هذه الصفات ولكن بشرط أن لا يقدح باحترامهم والانتقاص من شخصيتهم.

3. التفكر بالآخرة في جميع الأعمال

يُفكر أهل التقوى في جميع الأعمال بعاقبتها الأخروية. ففي الوقت الذي يكون عموم الناس منشغلين بالدنيا, يفرحون بمفاتنها ويغتمّون ممّا يحزنهم منها, يبني أهل التقوى جميع الأمور وفق معايير عالم الآخرة.

وهكذا يكون فرحهم وحزنهم غير حزن وفرح عموم الناس, ويكون فكرهم وهمّهم مختلفا عن الآخرين. فقد انصهرت مسائل الآخرة والخوف من سوء العاقبة وهيبة موقف الحساب والخجل من القصور والتقصير و…. في عمق كيانهم.

يرى أمير المؤمينن علي (ع) أنّ الالتفات إلى تاريخ السابقين والتفكّر في آثارهم يُشكّل رأسمال قليل لتذكر الحقائق التي يغفل عنها الإنسان غالباً في حياته, ويعمل على غراراها, ويقول:   

– “أوَ لَیسَ لکم فی آثار الأوّلین مُزدَجَر، و فی آبائکم الماضین تبصرة و مُعتبَرة إن کنتم تعقلون؟! أوَلَم تَرَوْا إلی الماضین منکم لایرجعون، وإلی الخلف الباقین لایَبْقَون؟!… ألا فاذکروا هاذم اللذات و منغّض الشهوات… و استعینوااللّه علی أداء واجب حقّه…[4].

والحمد الله رب العالمين


[1]  نهج البلاغة، الحکمة 143.

[2]  نهج البلاغة، الحکمة ٣٤٦.

[3]  نهج البلاغة، الخطبة 176.

[4]  نهج البلاغه، الخطبة 99.

اترك تعليقاً

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Post comment