صلاة الجمعة

خطبة صلاة الجمعة في مسجد الإمام عليّ (ع) في هامبورغ

مُقامة مِن قِبَل مُدیر المركز و إمام المسجد

سماحة الدكتور الشيخ هادي مفتح

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين و الحمد لله الذی لا مُضادّ له في مُلكه و لا مُنازِعَ لَهُ في أمره. الحمدالله الذی لا شريك لَهُ في خلقه ولا شبيه لَهُ في عَظَمَتِه (جزء من دعاء الإفتتاح) وصلّی الله علی سيدّنا و نبيّنا محمّد صلّی الله عليه و علی آله الطاهرين و اصحابه المنتجبين.

 عبادالله ! أُوصيكم و نفسي بتقوی الله و اتّباع امره و نهيه.

الموضوع:  أوصاف المتّقین (37)

العلامة التاسعة للمتقین:

– “وَصَبْراً فِي شِدَّة“.

   إنّ عبارة (صبراً في شدّة) تُدلّل على ثبات وتحمّل المتقين للشدائد اليومية والحوادث المؤلمة, فهذا الصبر والثبات يُعدّ من علامات المتّقين. 

   نقرأ في الحديث عن النبي الأكرم (ص) “إنَّ الصَّبْرَ نِصْفُ الإيمانِ”[1], كما قد ورد في حديث آخر عنه (ص): “الإيمانُ نِصْفانِ; نِصْفٌ فِى الصَّبْرِ وَ نِصْفٌ فِي الشُّکْرِ[2] (الصبر أمام المشاكل والمعضلات, والشكر للنعم).  

   إنّ الصعوبات والمشاكل أمر لا يفارق الحياة في هذا العالم, ولكنّ نفس هذه الصعوبات والمشاكل تجعل حياة الإنسان منيعة قوية, وتسير به نحو التقدّم والتطور. وبالرجوع إلى الثقافة الإسلامية نجد أنّ الصعوبات والمشاكل قد نُظر إليها بإيجابية, وعُدّت امتحاناً للمؤمن. يقول الإمام الحسن العسكري عليه السلام: “ما مِنْ بَلِيَّة إِلاّ وَ لِلّهِ فيها نِعْمَةٌ تُحيطُ بِها[3].

   يرى القرآن الكريم أنّ الامتحان الإلهي موجّه إلى كل الناس, ويقول في حقّ الذين تجاوزوا هذه الاختبارات بنجاح:

– {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ؛ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ؛أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}[4].

الأثر الدنيوي للصبر

   يُبشر الله سبحانه وتعالى في القرآن بسهولة ويسر الأعمال بعد العسر والصعوبات{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً}[5] ويُكرر هذا المعنى في الآية اللاحقة للتأكيد على ذلك أكثر {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً}[6].

   وعليه فالإنسان لن يصل إلى النتيجة المطلوبة ما لم يتحمل صعوبة ومرارة كل عمل. لقد كانت أحوال العلماء والحكماء في بادئ الأمر حافلة بالآلام والمآسي والصعوبات؛ وهكذا فإنّ نجاح أي إنسان مرهون بمواجهته للصعوبات وابتلاءات الحياة مضافاً لسعيه وهمته طوال حياته؛ وهنا نجد القرآن الكريم يُبيّن هذه المسألة بشكلٍ كلّي أنّ نجاح أيّ إنسان (سواء في الدنيا أم في الآخرة) يكون رهين سعيه وعمله {وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى}[7].

   فكم اتفق أنّ أشخاصاً ومع إعاقتهم الجسدية قد وصلوا بفضل همتهم العالية ومقارعتهم للمشاكل والصعوبات إلى تحقيق النجاحات, وكم حصل أنّ أشخاصاً أعطاهم الله مالاً واستعداداً كبيرا, ولكن نتيجة عدم همّتهم, لم يستفيدوا من هذا المال والاستعداد الموجود عندهم وفرّطوا بكل ما لديهم.

   ينقل مولوي قصة عارف كان عنده امرأة أخلاقها سيئة. فحصل أن جاء مريد إلى باب منزله لرؤيته, فقامت الزوجة وبكل ما تُكنّه من ضغينة لزوجها العارف بطرد هذا المريد. رجع المريد وبينما هو في الطريق إذ به يُشاهد العارف في الغابة وعلى ظهره كومة من الحطب وبيده أفعى.

   فاقترب من العارف وسلّم عليه وسأله لماذا لديك هكذا امرأة مع كل المقامات والكرامات التي وصلت إليها؟ فأجابه العارف بأنّ وصولي إلى هذا المقام هو بسبب تحمليّ لجفاء زوجتي, وما رأيتَه من كرامات عندي ما هو إلاّ نذر يسير ممّا حصّلته من صبري على أخلاق زوجتي.

الأثر الأخروي للصبر

   إنّ الله سبحانه وتعالى كلّما أحب الشخص أكثر, ابتلاه بالمشاكل والمحن أكثر, يقول الإمام موسى الكاظم عليه السلام في هذا الصدد: “اَلمُؤمِنُ مِثلُ کفَّتَي المِیزانِ کُلَّما زیدَ في إیمَانِهِ زیدَ في بَلائِهِ[8].

   ولهذا نجد أنّ الإنسان عندما يرى أنّه لا تنتابه المشاكل والصعوبات تصيبه حالة الغرور والعجب, سواء في ارتباطه مع الله سبحانه وتعالى أو بعلاقته مع سائر الأشخاص, والحال أنّ نفس هذا الإنسان نجده          

   يتعلّق بالله سبحانه ويطلب المدد الغيبي لرفع ما به من مشاكل وابتلاءات عندما يكون في معرض البلاءات والصعوبات. وعليه فالله سبحانه يبتلي المؤمن بالشدّة والألم حتّى يزداد إيمانه وارتباطه وتعلّقه بالدين, بالإضافة لاقتداره على تدبير أمور حياته بشكل أفضل. فكم يتفق أن يكون أشخاصاً مؤمنين متديّنين, ولكنّهم يُسيئون الظنّ بالله عند المشاكل والشدائد {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبّي‏ أَهَانَن‏}[9].

   إنّ إحدى دواعي البلاءات والشدائد للأشخاص المؤمنين والمتقين هو اختبارهم, يقول أمير المؤمنين (ع): “إِنَ‏ الْبَلَاءَ لِلظَّالِمِ‏ أَدَبٌ‏ وَ لِلْمُؤْمِنِ امْتِحَانٌ وَ لِلْأَنْبِيَاءِ دَرَجَةٌ وَ لِلْأَوْلِيَاءِ كَرَامَةٌ[10].

   إنّ قيمة صبر الأشخاص المؤمنين والمتقين على المتاعب والمشاكل معروفة في ذلك العالم, هناك حيث يُشير القرآن الكريم إلى أنّ الملائكة تأتي لاستقبال المؤمنين ويهنّؤنهم على صبرهم في تديّنهم وصبرهم أمام استهزاء وتحقير الأشخاص غير المتديّنين لهم, فيرحبّون بهم ويقولون لهم:

– {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ؛ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ؛ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}[11].


[1]  شرح نهج البلاغه ابن أبي الحديد، ج1، ص319؛ بحارالأنوار، ج79، ص137.

[2]  بحارالأنوار، ج74، ص151.

[3]  بحار الأنوار‏، ج‏75، ص374.

[4]  سورة البقرة:الآية 155-۱۵۷.

[5]  سورة الإنشراح:الآية 5.

[6]  سورة الإنشراح:الآية 6.

[7]  سورة النجم: الآية 39.

[8]  تحف العقول، ص408.

[9]  سورة الفجر:الآية 16.

[10]  تحف العقول، ص408.

[11]  سورة الرعد: الآية 22-۲۴.

اترك تعليقاً

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Post comment