صلاة الجمعة

خطبة صلاة الجمعة في مسجد الإمام عليّ (ع) في هامبورغ

مُقامة مِن قِبَل مُدیر المركز و إمام المسجد

سماحة الدكتور الشيخ هادي مفتح

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين و الحمد لله الذی لا مُضادّ له في مُلكه و لا مُنازِعَ لَهُ في أمره. الحمدالله الذی لا شريك لَهُ في خلقه ولا شبيه لَهُ في عَظَمَتِه (جزء من دعاء الإفتتاح) وصلّی الله علی سيدّنا و نبيّنا محمّد صلّی الله عليه و علی آله الطاهرين و اصحابه المنتجبين.

 عبادالله ! أُوصيكم و نفسي بتقوی الله و اتّباع امره و نهيه.

الموضوع:  أوصاف المتّقین (41)

العلامة الثالثة عشر للمتقین:

– “يَعْمَلُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَهُوَ عَلَى وَجَلٍ“.

   يُشير أمير المؤمنين (ع) مجدّداً إلى مقام خوف المتّقين, ولكن بشكلٍ مختلف عمّا قد بيّنه سابقا. فقد تمّ الحديث قبل ذلك عن مطلق الخوف, بينما قد جاء الكلام هنا عن الخوف حتّى أثناء الإتيان بالعمل الصالح.

مراتب الخوف

1- الخوف أثناء المعصية: إنّ الخوف من الله أثناء ارتكاب الإنسان للمعصية أو بعد ذلك له قيمته, لا بل يُنبئ عن وجود روح الإيمان في باطن الإنسان.

2- الخوف أثناء الغفلة: الإنسان الذي لا يعصي ولكن في الوقت ذاته ليس منشغلاً بالعبادة والعبودية لله سبحانه, تراه يخاف من الله بسبب الغفلة التي تُسيطر عليه مضافاً لإضاعته للفرص التي تهيّأت له.

3- الخوف أثناء العبادة: قليلاً ما يتّفق أن يخاف الإنسان من الله أثناء طاعته له وإتيانه بالعمل الصالح, ذلك أنّ من يسلك طريق العبودية ويُطبّق الأوامر الإلهية لا يخاف من الله وحسب, بل يرى نفسه مستحقّاً للعطاء والمثوبة الإلهية.  

   إنّ المتّقين يكونون على خوف حتّى أثناء إتيانهم للعبادات. يقومون بالعمل الصالح وفي الوقت عينه يخافون من التقصير في مقام العبودية والإطاعة لله جل وعلا, بالإضافة للتفريط بمقام القرب الإلهي.

   فالمتّقون يبقون على حذرٍ من أمرهم إلى يوم القيامة هناك حيث تُكشف السرائر وتبين الأعمال الحسنة من السيئة. وهذا هو السبب في أنّهم وحتّى أثناء عبادتهم وإتيانهم للعمل الصالح يُبقون على أمل وجود الرحمة الإلهية ويخافون من التقصير في عملهم. وعليه فهذه الصفة لدى المتّقين تمنع من ظهور آفات العبادة لديهم.

آفات العبادة

 يقول أمير المؤمنين (ع): “لِكُلِ‏ شَيْ‏ءٍ آفَةٌ[1]. وقد تمّت الإشارة إلى آفتين للعبادة في الروايات الإسلامية:

1- “الفترة” بمعنى الضعف والوهن. يقول النبي الأكرم (ص): “آفَةُ الْعِبَادَةِ الْفَتْرَةُ[2].

2- “الرياء” والعجب. يقول أمير المؤمنين (ع): “آفة العبادة الرّياء[3].

   يخاف المتّقون من أن لا تستجلب العبادة والعمل الصالح الذي يقومون به لله سبحانه على مرضاته, ولهذا السبب فإنّهم لا يرون أنّ صحيفة أعمالهم مليئة بالحسنات, بل يُشاهدون أنفسهم بحاجة دائمة للقيام بالمزيد من الأعمال الصالحة, وعليه لا يتوانون عن بذل أيّ جهد في هذا الطريق ولا يضعفون أبداً.

   يُبيّن الله سبحانه وتعالى هذه الحقيقة في القرآن الكريم عندما يقول:

– {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ؛ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}[4].

   نعم هكذا يكون المتّقون, وبسبب أنّهم يخشون من عدم قبول أعمالهم لذلك لا يُبالون أبداً بأعمالهم الصالحة ولا يتظاهرون بها أمام الآخرين. بناء على ما تقدّم تُشاهد أنّ كلّ همّهم وحرصهم في أن لا يكون الإتيان بالعمل الصالح سبباً لارتكابهم المعاصي ووقوعهم في التقصير وهلاكهم الأبدي. وبالتالي تكون نتيجة هذا القلق أنّهم يبقون في أمان من الوهن والرياء أثناء قيامهم بالعمل الصالح. إنّ هذا الخوف والقلق ليس عبثيّاٍ, فالقرآن الكريم يقول:

– {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً؛ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}[5].

   وهكذا نصل إلى أنّ هذه الصفة تبعث على أن يكون المتّقون في منأى عن الرذائل الأخلاقية الأخرى من قبيل التكبّر ,العجب ,الغرور ,أفضلية الأنا ,ذمّ الآخرين. فرؤية الشخص نفسه أنّه على مستوى من الكمال والرقي أفضل من الآخرين سيساعد على ظهور هذه الصفات الأخلاقية السيئة في داخله. وهنا تبرز المفارقة مع المتّقين حيث إنّهم يرون أنفسهم صغار ضعفاء أمام عظمة الله وكبريائه, ويصل بهم الحال أنّهم لا يطمئنّون إلى قبول عباداتهم وأعمالهم الصالحة من الله جلّ وعلا ويخافون من ذلك, فتنتفي بالتالي الظروف المساعدة على الابتلاء بهذه الرذائل الأخلاقية, ولهذا عندما عرّف أمير المؤمنين (ع) المتّقين ذكر صفة تواضعهم وجعلها الصفة الثالثة لهم (مشيهم التواضع), التواضع مقابل التكبر والغرور والعجب.

  ولقد أُثر عن الإمام السجاد (ع) أنّه وأثناء أدائه لمناسك الحج استوت به راحلته عند الإحرام ، وكان كلّما همّ بالتلبية انقطع الصوت في حلقه، وكاد أن يخر من راحلته فقلت: قل يا ابن رسول الله، ولابدّ لك من أن تقول، فقال: يا ابن أبي عامر كيف أجسر أن أقول : لبيك اللهم لبيك ، وأخشى أن يقول عز وجل لي: لا لبيك ولا سعديك[6].

   يُناجي المولى أبا عبد الله الحسين عليه السلام ربّه في دعاء عرفة المشهور: “إِلَهِي مَنْ كَانَتْ مَحَاسِنُهُ مَسَاوِيَ فَكَيْفَ‏ لَا يَكُونُ‏ مَسَاوِيهِ‏ مَسَاوِي[7].

والحمد الله ربّ العالمين


[1]  عيون الحكم والمواعظ (لليثي) ص٤٠٢.

[2]  المحاسن، ج١، ص١٧.

[3]  غررالحكم ودرر الكلم، ص٢٧٨.

[4]  سورة المؤمنون:الآية 60 – 61.

[5]  سورة الکهف: الآية:103- 104.

[6]  بحار الأنوار, ج 47, ص 16.

[7]  إقبال الأعمال (ط-القديمة)، ج١، ص٣٤٨.

اترك تعليقاً

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Post comment