صلاة الجمعة

خطبة صلاة الجمعة في مسجد الإمام عليّ (ع) في هامبورغ

مُقامة مِن قِبَل مُدیر المركز و إمام المسجد

سماحة الدكتور الشيخ هادي مفتح

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين و الحمد لله الذی لا مُضادّ له في مُلكه و لا مُنازِعَ لَهُ في أمره. الحمدالله الذی لا شريك لَهُ في خلقه ولا شبيه لَهُ في عَظَمَتِه (جزء من دعاء الإفتتاح) وصلّی الله علی سيدّنا و نبيّنا محمّد صلّی الله عليه و علی آله الطاهرين و اصحابه المنتجبين. عبادالله ! أُوصيكم و نفسي بتقوی الله و اتّباع أمره ونهيه.

 

العلامة الثامنة عشر:

إِنِ اسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِيمَا تَكْرَهُ لَمْ يُعْطِهَا سُؤْلَهَا فِيمَا تُحِبّ“.

   كنّا نتحدّث عن الخطوات اللازم اتّباعها في تعامل الإنسان مع نفسه, وقلنا بأنّ على الإنسان أن يبتدأ نهاره كلّ يوم بوضع مخططّ يسير عليه ويعاهد نفسه على ذلك وهذا ما يُطلق عليه المشارطة, بعد ذلك يُحافظ على السيطرة على نفسه طوال الوقت وهذه هي المراقبة, وفي الأخير يأتي في نهاية يومه وينظر فيما فعله وقدّمه ويُقيّم عمله وهذه هي المحاسبة. بعد هذه المراحل الثلاثة هناك مرحلة رابعة اسمها المعاتبة.

المعاتبة والمعاقبة

   المعاتبة في اللغة تعني إلقاء اللوم على الآخر, أمّا المعاقبة فتعني المجازاة. من هنا عندما نصل للمحاسبة ونرى بأنّ النفس قد جمحت وخالفت العهد والشرط الذي قد أُبرم لا يجب حينها أن نغض الطرف ونتجاوز عن ذلك بسهولة, بل يجب أن نعاتبها ونُجازيها على تقصيرها. فالإنسان إذا لم يقابل هذه الأعمال ويقف في قبالها سيساعد نفسه لتتجرّأ وتتجاوز حدودها أكثر فأكثر وستنقلب النتيجة عليه في الأخير ولن تكون لصالحه.

   لقد أكدّ علماء الأخلاق على هاتين المرحلتين وذلك بعد محاسبة النفس والوقوف على جموحها: فأكدّوا على لوم النفس (المعاتبة) ومجازاتها (المعاقبة). وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنين (ع) في خطبته لهمّام عندما أكدّ له أنّ المتّقي “إِنِ اسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِيمَا تَكْرَهُ لَمْ يُعْطِهَا سُؤْلَهَا فِيمَا تُحِبّ“. بالإضافة لهؤلاء فإنّ من يسيرون في طريق الله سبحانه وتعالى ويشتغلون بالسير والسلوك عليهم أن يتعاملوا هكذا أيضاً مع نفوسهم عند جموحها.

   وبالرجوع إلى القرآن الكريم نجد أنّه وللتأكيد على أهمية هذه المسألة يُقسم بالنفس اللوامة وذلك عندما يقول: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}[1], فالنفس اللوامة عبارة عن الوجدان الحي اليقظ التي تلوم وتذمّ صاحبها عند إتيانه بالعمل الخاطئ, وهذا يُعدّ نوع من المعاقبة والتأديب لها.

   ومن الواضح أنّ معاقبة وتأديب النفس بسبب إتيانها للأعمال السيئة الصادرة من الإنسان تبتني على سلسلة مراحل متتالية تبدأ من إلقاء اللوم, ثم تترقّى للوصول إلى مراحل أشدّ كحرمانها من بعض ملذّات الحياة خلال مدّة معيّنة.

   لقد تخلّف ثلاثة من أصحاب النبي عن أوامره في معركة تبوك, وبعدما رجع النبي من المعركة, أمر من كان معه من المسليمن بقطع علاقتهم بهؤلاء الأشخاص, حتّى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت. فما كان منهم إلّا أن جاؤوا إلى النبي (ص) وأعلنوا عن توبتهم أمامه وعاقبوا أنفسهم بأن انعزلوا لوحدهم وراحوا يناجون الله ويستغيثونه لقبول توبتهم, وبعد مدّة قبل الله توبتهم وأنزل هذه الآية {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[2].

   بالإضافة إلى هؤلاء لدينا أبو لبابة الأنصاري صحابي النبي المعروف الذي ارتكب خطأً فظيعاً عندما أفشى مخطط النبي (ص) على الملأ. ولكنّه ندم وتحسّر كثيراً بعدها على فعلته هذه, جاء إلى مسجد النبي وربط نفسه بأحد أعمدته – العمود المعروف اليوم بعمود أبو لبابة- وأقسم أنّه لن يفكّ نفسه حتّى يرضى الله عنه ويتوب عليه. بقي مدّة مؤدبّاً نفسه بهذه الطريقة, إلى أن نزلت الآية 102 من سورة التوبة وقُبلت توبته {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

   يقول أمیر المؤمنین: “إذا صَعُبَت عَلَیکَ نَفسُکَ فَاصعُب لَها تَذِلُّ لَکَ”.

   ويقول أيضاً: “مَن ذَمَّ نَفسَهُ أصلَحَها، مَن مَدَحَ نَفسَهُ ذَبِحَها[3].

   يُنقل في أحوال الفقيه وعالم التشيّع الكبير المرحوم آية الله البروجوردي أنّه كان ينفعل بعصبية أحياناً, حتّى أنّه كان يحتد مع بعض طلاب درسه, ولكنّه مع كل ذلك ومع أنّه كان بمنزلة الأب لأولاده مع طلاب درسه كان يندم ويتراجع بسرعة عن موقفه معهم, وكان يُقدم على الاعتذار والتراجع, ولأجل ذلك كان ينذر صيام اليوم التالي, وهكذا كان يُعاقب نفسه بهذه الطريقة.

   يقول الملّا أحمد النراقي: “يجب على الإنسان أن يُؤدبها إذا صدر منها عملا سيئاً ومعصية خلاف ما يريد, فمثلاً يقوم بإجهاد بدنه بالعبادات الشاقة وإنفاق الأموال, وإذا أكل لقمة حرام يجوع مقداراً معينا, كذلك إذا اغتاب لسانه إنساناً مسلما فإمّا أن يقوم بمدحه أو التزام السكوت أو الإكثار من ذكر الله فيُجازي نفسه بهذه الطريقة. أمّا إذا أهان شخصا فقيراً محتاجاً يقوم بإنفاق الأموال عليه وهكذا يعمل مع سائر المعاصي والذنوب”[4].

[1]  سورة القیامة:الآية 2.

[2]  سورة التوبة:الآية ۱۱۸.

[3]  الغرر والدرر؛ 1/661.

[4]   معراج السعادة:ص 703.

اترك تعليقاً

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Post comment