صلاة الجمعة

خطبة صلاة الجمعة في مسجد الإمام عليّ (ع) في هامبورغ

مُقامة مِن قِبَل مُدیر المركز و إمام المسجد

سماحة الدكتور الشيخ هادي مفتح

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين و الحمد لله الذی لا مُضادّ له في مُلكه و لا مُنازِعَ لَهُ في أمره. الحمدالله الذی لا شريك لَهُ في خلقه ولا شبيه لَهُ في عَظَمَتِه (جزء من دعاء الإفتتاح) وصلّی الله علی سيدّنا و نبيّنا محمّد صلّی الله عليه و علی آله الطاهرين و اصحابه المنتجبين. عبادالله ! أُوصيكم و نفسي بتقوی الله و اتّباع أمره ونهيه.

الموضوع: أوصاف المتّقین (50)

العلامة العشرون:

يَمْزُجُ الْحِلْمَ بِالْعِلْمِ وَالْقَوْلَ بِالْعَمَلِ“.

   لقد ذكر أمير المؤمنين (ع) سابقاً في خصوص العلم والحلم: “وَأمَّا النَّهَار فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ“, ولكن وللتأكيد على تلازم الحلم مع العلم ذكر مقولته هذه. وعليه فقد أكدّ شارحو نهج البلاغة في تعليقهم على هذه العبارة لأمير المؤمنين (ع) أنّ المتّقين يتحلّون بالصبر والحلم, ولكن حلمهم مسبوق ومبتنٍ على المعرفة والعلم[1].

   إنّ حلم وصبر المتّقين ليس بسبب ضعفهم وعجزهم, بل تراهم يصبرون ويتحمّلون بسبب إدراكهم لفوائد وآثار اقتران الحلم مع العلم. وهنا نرى أنّ البعض يسكت على ظلم الظالم بسبب ضعفه وعجزه عن المواجهة ولا يأتي بأي ردّة فعل تجاهه, ونرى كذلك فئة أخرى تسكت ولا تأتي بردّة فعلٍ معاكسة على ما يجري بحقها مع أنّهم قادرون على الانتقام وإلحاق الضرر على من تسبّب لهم بالأذى. وهنا صبر وتحمّل الفئة الثانية كما هو معلوم أفضل من الفئة الأولى. وعليه المتّقون يكونون من الفئة الثانية بمعنى أنّ علمهم ومعرفتهم ناتج عن حلمهم وصبرهم, فيكون الصبر سبباً لسلوكهم الرزين والمناسب حيث لا يأتون بردّات فعل مشينة أمام الآخرين ويصبرون على آذاهم. فحلمهم في الحقيقة متفرّع عن حكمتهم ووعيهم لا بسبب ضعفهم وعجزهم.

   وهكذا فإنّ المتّقين قد طابق قولهم عملهم. ولو حصل وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر فسوف يكونون ملتزمين بما أمروا به ونهوا عنه. يقول القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}[2].

   يقول أمير المؤمنين (ع) حول تأكيده على أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في العلاقات الاجتماعية: “ظَهَرَ الفَسادُ فَلا مُنكِرٌ مُغَيِّرٌ وَ لا زاجِرٌ مُزدَجِرٌ. أفَبِهذا تُريدُونَ أنْ تَجاوَرُوا اللّهَ فِي دارِ قُدْسِهِ وَ تَكُونُوا أعَزَّ أولِيائِهِ عِنْدَهُ هَيْهاتَ لا يُخْدَعُ اللّهُ عَنْ‏ جَنَّتِهِ وَ لا تُنالُ مَرْضاتُهُ إلّا بِطاعَتِهِ. لَعَنَ اللهُ الآمرينَ بِالْمَعْرُوفِ التّارِكينَ لَهُ وَ النّاهينَ عَنِ الْمُنْكَرِ العامِلينَ بِهِ[3].

   ويُؤكد أيضاً على أهمية عمل الآمر بالمعروف بما يأمر به وترك الناهي عن المنكر لما ينهى عنه: “أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي وَ اللَّهِ مَا أَحُثُّكُمْ عَلَى طَاعَةٍ إِلَّا وَ أَسْبِقُكُمْ إِلَيْهَا وَ لَا أَنْهَاكُمْ عَنْ مَعْصِيَةٍ إِلَّا وَ أَتَنَاهَى قَبْلَكُمْ عَنْهَا[4].

 

 

العلم بلا عمل مدعاة لغضب الله

   إنّ العلم الذي لا يقترن بالعمل لن ينتفع منه صاحبه وحسب بل سيأخذ به إلى الخسران والهلاك وسيستوجب غضب الله عليه. أوحى الله سبحانه إلى النبي داوود عليه السلام: “أَنَّ أَهْوَنَ مَا أَنَا صَانِعٌ بِعَالِمٍ غَيْرِ عَامِلٍ بِعِلْمِهِ أَشَدُّ مِنْ سَبْعِينَ عُقُوبَةً أَنْ أُخْرِجَ مِنْ قَلْبِهِ حَلَاوَةَ ذِكْرِي[5].

   جاء في الحديث الشريف عن النبي عيسى عليه السلام: “رَأَيْتُ حَجَراً مَكْتُوباً عَلَيْهِ قَلِّبْنِي فَقَلَّبْتُهُ فَإِذَا عَلَى بَاطِنِهِ: مَنْ لَا يَعْمَلُ بِمَا يَعْلَمُ مَشُومٌ عَلَيْهِ طَلَبُ مَا لَا يَعْلَمُ وَ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ مَا عَلِمَ[6].   

   وورد كذلك عن النبي الأكرم (ص): “كُلُّ عِلْمٍ وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا مَنْ عَمِلَ بِهِ[7].

   يجب أن يكون العلم مشعلاً يُنير طريق الإنسان ويُقرّبه من الجنّة, وفي حال لم يعمل الإنسان به سيكون له أثراً عكسيّاً عليه وسيودي بالإنسان إلى السقوط من ساحة القرب من الله. جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ فَسَأَلَهُ عَنْ مَسَائِلَ فَأَجَابَ ثُمَّ عَادَ لِيَسْأَلَ عَنْ مِثْلِهَا فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ اَلْحُسَيْنِ عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ: “مَكْتُوبٌ فِي الْإِنْجِيلِ لَا تَطْلُبُوا عِلْمَ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَ لَمَّا تَعْمَلُوا بِمَا عَلِمْتُمْ فَإِنَّ الْعِلْمَ إِذَا لَمْ يُعْمَلْ بِهِ لَمْ يَزْدَدْ صَاحِبُهُ إِلَّا كُفْراً وَ لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللَّهِ إِلَّا بُعْداً [8].

 

 

 

العلم بلا عمل مهلكة للإنسان

   بعد التأكيد على أهمية العلم مع العمل وأنّ العلم من دون العمل يستوجب غضب الله جلّ وعلا, نصل إلى أنّ العمل من دون العلم يودي بالإنسان كذلك للهلاك والضلالة. إنّ العلم والعمل جناحان يتمسّك بهما الإنسان معاً في جميع الأوقات, وإن حصل ذلك سيوصلان الإنسان إلى أعلى مراتب السعادة والقرب من الله تعالى. يقول أمير المؤمنين (ع): “فَإِنَّ الْعَامِلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَالسَّائِرِ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ فَلَا يَزِيدُهُ بُعْدُهُ عَنِ الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ إِلَّا بُعْداً مِنْ حَاجَتِهِ وَ الْعَامِلُ بِالْعِلْمِ كَالسَّائِرِ عَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ أَ سَائِرٌ هُوَ أَمْ رَاجِعٌ[9].

[1]  شرح ‏نهج ‏البلاغة, (ابن ‏أبي ‏الحديد)، ج١٠،ص١٥٧.

 

[2]  سورة الصف:الآية 2-۳.

[3]  نهج البلاغة، الخطبة129.

[4]  نهج البلاغة,(صبحی صالح)؛ ص250.

[5]  بحار الأنوار، ج‏٢، ص٣٢.

[6]  نفس المصدر.

[7]  منية المريد، ص١٣٥.

[8]  الكافي، ج‏١، ص٤٤.

[9]  نهج البلاغة (صبحي صالح)، ص٢١٦.

 

اترك تعليقاً

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Post comment