صلاة الجمعة

خطبة صلاة الجمعة في مسجد الإمام عليّ (ع) في هامبورغ

مُقامة مِن قِبَل مُدیر المركز و إمام المسجد

سماحة الدكتور الشيخ هادي مفتح

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين و الحمد لله الذی لا مُضادّ له في مُلكه و لا مُنازِعَ لَهُ في أمره. الحمدالله الذی لا شريك لَهُ في خلقه ولا شبيه لَهُ في عَظَمَتِه (جزء من دعاء الإفتتاح) وصلّی الله علی سيدّنا و نبيّنا محمّد صلّی الله عليه و علی آله الطاهرين و اصحابه المنتجبين. عبادالله ! أُوصيكم و نفسي بتقوی الله و اتّباع أمره ونهيه.

الموضوع: أوصاف المتّقین (52)

العلامتان الثانية والثالثة والعشرين:

تَرَاهُ … قَلِيلًا زَلَلُهُ، خَاشِعاً قَلْبُهُ“.

تأتي كلمة (الزلل) بمعنى السقوط, ويمكن أن تحمل ثلاثة معاني أخرى:

  • المعصية.
  • السهو والاشتباه.
  • ترك الأولى.

   تتمثّل الخطوة الأولى في تحصيل ملكة التقوى بترك المعصية والتي يُعبّر عنها بالعدالة. من هنا يُعرّف الفقهاء العدالة بأنّها (ترك المعاصي الكبيرة وعدم الإصرار على ارتكاب الصغيرة منها). فالأنبياء والأئمة الأطهار عليهم السلام الذين يمتلكون مقام العصمة مبرّؤون من ارتكاب أيّ معصية كبيرة كانت أم صغيرة, ولكن سائر الناس غير مصونين من ذلك. وهكذا نجد أشخاصاً  غير معصومين قد بلغوا درجة العدالة وتنعّموا بالمقامات الرفيعة عند الله سبحانه وما ذلك إلاّ بسبب سعيهم الدؤوب أكثر من غيرهم في الإقلاع عن ارتكاب المعاصي.

   وبالرجوع إلى المتّقين نرى أنّ أقلّ درجة يمتلكونها تتمثّل بمقام العدالة حيث يمتنع الإنسان المتّقي عن ارتكاب المعصية الكبيرة, ولو حصل واقترف شيئاً من الصغائر فإنّه يُسارع للتوبة ولا يُصرّ على تكرارها. وعليه فإنّ السقوط في شراك الكبائر لا ينسجم مع مقام ودرجة المتّقين التي يمتلكونها, ولذلك فإنّ السقوط يكون من جنس المعصية والذنب, وإن صدر منهم معصية في مكانٍ ما فلا بُدّ أن تكون من الصغائر لأنّهم لا يُصرّون على ذلك, وبعبارة أخرى نادراً ما تصدر منهم.

   إنّ السهو والاشتباه من الموارد التي يكون أولياء الله المعصومون مبرّؤون منها. فلو لم يكن النبي أو الإمام معصوماً من الزلل والاشتباه كيف يمكن أن يكون قدوةً ومرجعاً لغيره في أفعاله وأقواله وحتّى سكوته؟! والسبب أنّه إذا كان احتمال وقوعه في الزلل والخطأ قائماً في كلّ لحظة سيستوجب هذا الأمر عدم ثقة الناس به. ولأجل هذا السبب نجد أنّ الأنبياء والأئمة عليهم السلام والذين هم أسوة وقدوة للبشرية في كلّ شيء يجب أن يكونوا معصومين عن المعصية, ومنزّهين عن الزلل والسهو أيضاً حتّى يتمكّن الناس من الاعتماد عليهم بشكلٍ مطلق, ويسلكوا طريق الهداية والعبودية.

   نصل الآن إلى السؤال التالي, طالما أنّنا قطعنا بأنّ المتّقين ليسوا معصومين وعليه يشتبهون في بعض الأوقات, ولكن هل تكون اشتباهاتهم أقلّ من الآخرين؟ الجواب نعم اشتباهاتهم تكون أقلّ من الآخرين, والسبب أنّهم قد أوصدوا الباب في وجه الظروف المساعدة على الاشتباه والزلل بشكلٍ قاطعٍ وكبير. يعد القرآن الكريم المتّقين ويقول لهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا}[1].

 أمّا في خصوص ترك الأولى فالأنبياء ليسوا في رتبة واحدة. ومع أنّ الأنبياء منزّهون عن ارتكاب المعاصي إلّا أنّه جاء في مصادرنا الإسلامية أنّ بعض الأنبياء جاؤوا بأعمالٍ لم تكن أولوية لهم, فكان هناك أعمال أنسب وأصلح, وبعبارة أخرى كان الله يتوقّع من نبيه أن يأتي بفعلٍ أفضل مما قد جاء به. وهنا وانطلاقاً من أنّ المتّقين ليسوا معصومين, فإنّ ترك الأولى يصدر منهم كذلك, ولكن بما أنّ وجودهم قد امتلأ بعشق الله بحيث لا يرضيهم حتّى ترك الأولى لشدّة تعلقهم ومحبّتهم لله, فلأجل هذا السبب نادراً ما يصدر عنهم تركهم للأولى.

   إنّ المتّقين وبسبب امتلاء قلبهم بجبروت وعظمة الله جلّ وعلا والتي قد انعكست وتجلّت في جميع كيانهم وأعضائهم وجوارحهم, ساهم هذا الأمر في تجلّي الخشوع في عبادتهم بشكلٍ واضح. فالمناجات وتلاوة القرآن بصوتٍ حزين التي يصورها أمير المؤمنين (ع) في حقّ المتقين وسط الليل في خلوتهم وهم معه كلّ ذلك نابع من قلبهم الخاشع لله سبحانه.

   يقول أمير المؤمنين (ع): “لِيَخْشَعْ للّهِ سُبحانَهُ قَلبُكَ، فمَن خَشَعَ قَلبُهُ خَشَعَتْ جَميعُ جَوارِحِهِ[2].

   أوحى الله جلّ وعلا إلى موسى وهارون: “إِنَّمَا يَتَزَيَّنُ‏ لِي‏ أَوْلِيَائِي بِالذُّلِّ وَ الْخُشُوعِ وَ الْخَوْفِ الَّذِي يُثْبِتُ فِي قُلُوبِهِمْ فَيَظْهَرُ مِنْ قُلُوبِهِمْ عَلَى أَجْسَادِهِمْ فَهُوَ شِعَارُهُمْ وَ دِثَارُهُمُ الَّذِي بِهِ يَسْتَشْعِرُونَ وَ نَجَاتُهُمُ الَّذِي بِهَا يَفُوزُونَ دَرَجَاتِهِمُ الَّتِي لَهَا يَأْمَلُونَ وَ مَجْدُهُمُ الَّذِي بِهِ يَفْتَخِرُونَ وَ سِيمَاهُمُ الَّتِي بِهَا يُعْرَفُونَ فَإِذَا لَقِيتَهُمْ يَا مُوسَى فَاخْفِضْ لَهُمْ جَنَاحَكَ وَ أَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ وَ ذَلِّلْ لَهُمْ قَلْبَكَ وَ لِسَانَكَ وَ اعْلَمْ أَنَّهُ مَنْ أَخَافَ لِي وَلِيّاً فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ ثُمَّ أَنَا الثَّائِرُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ[3].

  فالقلب هو منبع الخشوع, وقلوب المتّقين طافحة بالخشوع أمام الله سبحانه وتعالى. جاء في الحديث القدسي أنّ الله أوحى إلى عيسى بن مريم: “يَا عِيسَى هَبْ لِي مِنْ عَيْنَيْكَ الدُّمُوعَ وَ مِنْ‏ قَلْبِكَ‏ الْخُشُوع[4]. وقال أيضاً لموسى بن عمران: “يَا ابْنَ عِمْرَانَ هَبْ لِي مِنْ‏ قَلْبِكَ‏ الْخُشُوعَ‏ وَ مِنْ بَدَنِكَ الْخُضُوعَ وَ مِنْ عَيْنَيْكَ الدُّمُوعَ فِي ظُلَمِ اللَّيْلِ وَ ادْعُنِي فَإِنَّكَ تَجِدُنِي قَرِيباً مُجِيباً[5].

   وأخيرا نصل إلى أنّ المتّقين بفضل تقديم قلبهم الخاشع إلى ساحة الله عزّ وجل, ينالون الدرجات الرفيعة في قربهم من الله, الدرجات التي تبعث على صقل أرواحهم بأنوار المعرفة.

والحمد الله ربّ العالمين

[1]  سورة الأنفال:الآية ۲۹.

[2]  تصنیف غرر الحکم ودرر الکلم، ص٦٧.

[3]  عدة الداعي ونجاح الساعي، ص١٦٠.

[4]  الأمالي (للمفيد)، ص ٢٣٧.

[5]  الأمالي (للصدوق)، ص ٣٥٧.

اترك تعليقاً

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Post comment