صلاة الجمعة

خطبة صلاة الجمعة في مسجد الإمام عليّ (ع) في هامبورغ

مُقامة مِن قِبَل مُدیر المركز و إمام المسجد

سماحة الدكتور الشيخ هادي مفتح

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين و الحمد لله الذی لا مُضادّ له في مُلكه و لا مُنازِعَ لَهُ في أمره. الحمدالله الذی لا شريك لَهُ في خلقه ولا شبيه لَهُ في عَظَمَتِه (جزء من دعاء الإفتتاح) وصلّی الله علی سيدّنا و نبيّنا محمّد صلّی الله عليه و علی آله الطاهرين و اصحابه المنتجبين. عبادالله ! أُوصيكم و نفسي بتقوی الله و اتّباع أمره ونهيه.

الموضوع: أوصاف المتّقین ۵۹

العلامة الثالثة والثلاثين للمتقین:

‏ “فِي الزَّلَازِلِ وَقُورٌ وَ فِي الْمَكَارِهِ صَبُورٌ وَ فِي الرَّخَاءِ شَكُورٌ“.

الوقار هو أحد الثمار والنتائج لصفة الحلم التي يؤكد عليها أمير المؤمنين (ع) بقوله: ” اَلوقارُ نتيجةُ الحِلمِ[1].

جاء شمعون بن لاوي اليهودي والذي كان أحد حواريي عيسى عليه السلام إلى النبي الأكرم (ص) وسأله عن أمور عديدة. فأجابه النبي بأجوبة لطيفة انطوت على مطالب ومضامين عالية ومن جملة ما قاله له: “فَتَشَعَّبَ مِنَ الْعَقْلِ الْحِلْمُ وَ مِنَ الْحِلْمِ الْعِلْمُ وَ مِنَ الْعِلْمِ الرُّشْدُ وَ مِنَ الرُّشْدِ الْعَفَافُ‏ وَ مِنَ الْعَفَافِ الصِّيَانَةُ وَ مِنَ الصِّيَانَةِ الْحَيَاءُ وَ مِنَ الْحَيَاءِ الرَّزَانَةُ وَ مِنَ الرَّزَانَةِ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى الْخَيْر[2].

الرزانة تعني الوقار والهيبة وكما يظهر من كلام رسول الله (ص) نجد أنّها أحد النتائج التي تتأتّى من عقل الإنسان. وعليه وقار الإنسان في الحقيقة والواقع يحكي عن كمال عقله وسلامة هذه الموهبة الإلهية المودعة في داخله, ولهذا يقول أمير المؤمنين (ع): “يُسْتَدَلُّ عَلَى عَقْلِ[3].

الصفات المنشعبة من الوقار

يكمل النبي الأكرم (ص) في الحديث السابق كلامه بتعداد جملة من الصفات تنشعب عن الروانة والوقار ويقول:

وَأَمَّا الرَّزَانَةُ فَيَتَشَعَّبُ مِنْهَا اللُّطْفُ وَ الْحَزْمُ وَ أَدَاءُ الْأَمَانَةِ وَ تَرْكُ الْخِيَانَةِ وَ صِدْقُ اللِّسَانِ وَ تَحْصِينُ الْفَرْجِ وَ اسْتِصْلَاحُ الْمَالِ وَ الِاسْتِعْدَادُ لِلْعَدُوِّ وَ النَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ تَرْكُ السَّفَهِ فَهَذَا مَا أَصَابَ الْعَاقِلُ بِالرَّزَانَةِ[4].

وبالرجوع إلى كلام أمير المؤمنين عليه السلام نجد أنّ الوقار الذي يتحدّث عنه ويعدّه من صفات المتقين يكون ملازماً لهم حتّى في حالات الشدّة وعند طغيان المشاكل عليهم, وإلاّ فإنّنا نجد أنّ الكثير من الناس يلتزمون الوقار في أغلب حالات السكينة والهدوء التي يعيشونها. وهنا يبرز الفارق بين حالة هؤلاء وبين المتقين فنجد أنّ المتقين تبقى حالة السكينة والوقار مسيطرة عليهم حتّى عند الصعوبات وفي أحلك الظروف, فيحافظون على رزانتهم واستقامتهم ولا يتزلزلون أبداً.

يقول القرآن الكريم عن وقار المؤمنين وتلازمه مع التقوى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى‏ رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى‏ وَ كانُوا أَحَقَّ بِها وَ أَهْلَها وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيماً}[5].

الصبر عند الابتلاءات

يكمل أمير المؤمنين (ع) كلامه في التأكيد على صبر المتقين مقابل الأمور التي يكرهونها ولا تروق لهم. فمثلاً نجد أنّ الصبر في قبال بعض الشدائد ليس منفرّاً للإنسان, وذلك كحال الإنسان الذي يُجدّ في طلب أمور معاشه وتحصيل قوت يومه حيث ومع كل الجهد والعناء والتعب الذي يتحمله تراه يصبر أمام جميع هذه التحديات ويكمل طريقه للمستقبل من دون أن تولد هذه المتاعب جميعها تنفرّاً وانزجاراً له. أو في جانب الأمور المعنوية والأخروية نرى أنّ الذي يجهد في صيام الأيّام الطويلة خلال السنة فصحيح أنّه يتعب ويُعاني لتحقيق مرضاة الله سبحانه وتعالى ولكن لا تتولد عنده أيّ كراهة ونفور ممّا يقوم به.

ولكن ليست كلّ الأمور التي تعرض في حياة الإنسان من هذا القبيل فالبعض منها يُسبب المتاعب والمآسي لهم من قبيل فقد الأحبة, وهنا لا فرق عند المتقين في ثباتهم في هذا القبيل من الأمور حيث يقفون وبكل ثبات وعزمٍ وأملٍ كبير بالله لمواجهة كلّ هذه المصائب لأنّهم يعلمون أنّ الدنيا ليست باقية بجميع ما تحمله من محاسن ومساوئ, فيكون إيمانهم بالله سيّد الموقف,  وفي الأخير هم على يقين أنّ هناك عالم وراء هذا العالم سيوفى الصابرون أجرهم بأحسن وأفضل شكلٍ ممكن هناك في محكمة العدل الإلهية.

يقول الإمام الباقر عليه السلام في أهمية الصبر مقابل مكاره الدنيا: “الْجَنَّةُ مَحْفُوفَةٌ بِالْمَكَارِهِ‏ وَ الصَّبِرِ، مَنْ صَبَرَ عَلَى الْمَكَارِهِ فِي الدُّنْيَا دَخَلَ الْجَنَّةَ؛ وَ جَهَنَّمُ مَحْفُوفَةٌ بِاللَّذَّاتِ وَ الشَّهَوَاتِ، فَمَنْ أَعْطَى نَفْسَهُ لَذَّتَهَا أَوْ شَهْوَتَهَا دَخَلَ النَّارَ[6].

إنّ قابلية كلّ إنسان تختلف مع الآخر. وعليه الكثير من المتقين قد وصلوا إلى مقام الرضا واليقين, ولكن ما هو أرفع من ذلك أن ينعموا بدرجة التسليم لله عزّ وجل ويصبروا في المقابل على المصيبة. يقول النبي الأكرم لأبي ذر: “یا اباذرٍّ! … فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَعْمَلَ لِلَّهِ (عَزَّ وَ جَلَّ) بِالرِّضَا فِي الْيَقِينِ فَافْعَلْ، وَ إِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَإِنَّ فِي‏ الصَّبْرِ عَلَى‏ مَا تَكْرَهُ‏ خَيْراً كَثِيراً، وَ إِنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً “[7].

[1]  غرر الحكم ودرر الكلم، ص٢٨.

[2]  بحار الأنوار، ج‏١، ص١١٧.

[3]  عيون الحكم و المواعظ (لليثي)، ص٥٥٥ .

[4]  بحار الأنوار، ج‏١، ص١١٨.

[5]  سورة الفتح: الآية 26.

[6]  الكافي، ج‏٢، ص٨٩.

[7]   الأمالي (للطوسي)، ص٥٣٦.

اترك تعليقاً

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Post comment