صلاة الجمعة

                            خطبة صلاة الجمعة في مسجد الإمام عليّ (ع) في هامبورغ

مُقامة مِن قِبَل مُدیر المركز و إمام المسجد

سماحة الدكتور الشيخ هادي مفتح

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين و الحمد لله الذی لا مُضادّ له في مُلكه و لا مُنازِعَ لَهُ في أمره. الحمدالله الذی لا شريك لَهُ في خلقه ولا شبيه لَهُ في عَظَمَتِه (جزء من دعاء الإفتتاح) وصلّی الله علی سيدّنا و نبيّنا محمّد صلّی الله عليه و علی آله الطاهرين و اصحابه المنتجبين. عبادالله ! أُوصيكم و نفسي بتقوی الله و اتّباع أمره ونهيه.

العلامة الثانية والأربعين للمتقین: 

‏ “وَإِنْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يَنْتَقِمُ لَهُ“.  

   يحصل للإنسان أن يلحق به ظلم من أصدقائه وأقربائه أو إخوته حتى بحيث لو أراد الانتقام لتفاقمت الأمور إلى الأسوأ ومن الممكن أن تزداد حتّى تصل إلى مكانٍ خطير غير قابل للإصلاح. وهنا إذا صبر الإنسان وتحمّل في هكذا مواضع  وترك أمر الطرف المقابل لله سبحانه فسيكون قد أراح نفسه من وساوس الشيطان الخطيرة بالإضافة إلى مساهمته في الحفاظ على هدوء المجتمع. وهنا لا بد من الالتفات إلى أنّ الخطأ وعدم اتخاذ القرار الصائب في هكذا مواضع من الممكن أن يودي بالمظلوم إلى القصاص ويجعله ظالما وسببا له. فالمتقون مدركون لهذا الأمر حتّى لو كانوا قادرين على الانتقام فبالرجوع إلى الآية الشريفة  {وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} ينأون بأنفسهم عن الانتقام والقصاص. 

وهكذا فإنّ المتقين مطلعون على أجر ونتيجة الصبر على هذه المظالم ولذلك تراهم وبالتوكل على الله يفوضون أعمالهم إليه كما يقول القرآن الكريم {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا}. وفي المقابل نرى قول الله عز وجل ووعده بالانتقام للمظلومين بأفضل نحوٍ وطريقة ممكنة {ذلِكَ وَ مَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}.

  

العلامة الثالثة والأربعين للمتقین: 

‏ “نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاءٍ وَ النَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ، أَتْعَبَ نَفْسَهُ لِآخِرَتِهِ وَ أَرَاحَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ“. 

يمكن الوقوف على تفسيرين لعبارة أمير المؤمنين (ع) هذه: 

الإنسان المتّقي يحرم نفسه من الأمور المحرمة ذلك أنّه يعرف أنّ النفس أمّارة بالسوء ودائماً ما تقود صاحبها نحو الأفعال المشينة وتكون على عداوة دائمة مع صاحبها. وعليه فإنّه ونتيجة مخالفته لأهواء نفسه وتسويلاتها سيساهم في راحة الآخرين وهدوء بالهم, لأنّ ظلم وأذية الناس من وساوس الشيطان وتسويلات النفس والإنسان المتقي عندما يتغلب على نفسه ولا ينقاد لها سيأمن الآخرون عندها من شرّه وسيكونون في راحة من أمره. وهذا ما يؤكد عليه الرسول الأكر (ص) بقوله: “أَفْضَلُ الْجِهَادِ مَنْ أَصْبَحَ لَا يَهُمُّ بِظُلْمِ‏ أَحَدٍ“.  بالإضافة لما تقدّم يتحمل الإنسان المتّقي الصعاب والشدائد من أجل تأمين الراحة للآخرين. فقد ورد عن أمير المؤمنين (ع) أنّه سمع من رسول الله (ص): “الْخَلْقُ عِيَالُ اللَّهِ فَأَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ مَنْ نَفَعَ عِيَالَ اللَّهِ وَ أَدْخَلَ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ سُرُوراً“.    

وهنا بناء لما تقدّم يتسابق المتّقون إلى تحصيل أكبر مقدار خدمة للناس كي يقتربوا أكثر من ساحة الله عزّ وجل ويصبحوا محبوبين له أكثر من الآخرين. يقول النبي الأكرم (ص) عن فضل خدمة الناس: “خَصْلَتَانِ وَ لَيْسَ فَوْقَهُمَا خَيْرٌ مِنْهُمَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَ النَّفْعُ لِعِبَادِ اللَّهِ قَالَ وَ خَصْلَتَانِ لَيْسَ فَوْقَهُمَا شَرٌّ الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَ الْإِضْرَارُ لِعِبَادِ اللَّهِ“. وقال أيضاً : “خَیرُ النّاسِ أنفَعُهُم لِلنّاسِ“.

 يُبيّن أمير المؤمنين (ع) المقصود من الجملة الأولى من خلال الجملة الثانية, فالمتّقون يجهدون ويدأبون من أجل الآخرة. و مجاهدة النفس والوقوف أمام أهوائها والرضا بالكثير من التكاليف الإلهية الصعبة (كالصوم في أيام الحر الطويلة) والتضحية من أجل تحصيل منافع الناس كل ذلك من أجل إيمانهم بعالم الآخرة ويوم القيامة, وعليه ولأجل هذا السبب بذلوا قصارى جهدهم لذلك اليوم ولو كانت ضريبة ذلك على حساب راحتهم الشخصية.

لقد تجاوز المتقون مرحلة علم اليقين ووصلوا إلى عين اليقين, ومن وصل إلى النبع ورأى حقائق هذا العالم والقيامة الكبرى (الجنة والنار) لن تبقى من مكانة تذكر في قلبه لهذه الدنيا الفانية ولن ينشغل بها بعد ذلك. يقول أمير المؤمنين (ع): “مَنْ‏ عَمَّرَ دَارَ إِقَامَتِهِ‏ فَهُوَ الْعَاقِلُ“. كما أنّ القرآن الكريم يُعرّف الآخرة على أنّها دار القرار والمقام للإنسان{يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَ إِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ}. 

وفي الأخير نصل إلى أنّ المتقين قد عمروا آخرتهم الأبدية من خلال مجاهدتهم لنفوسهم الأمارة ومحاربتهم للوساوس الشيطانية وخدمتهم لخلق الله سبحانه حتّى لا يكونوا من زمرة المتحسّرين على ما ضيّعوه في هذه الدنيا هناك حيث وصفهم الله تعالى {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى‏ ما فَرَّطْنا فِيها وَ هُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى‏ ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ}.  

اترك تعليقاً

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Post comment