صلاة الجمعة

خطبة صلاة الجمعة في مسجد الإمام عليّ (ع) في هامبورغ

مُقامة مِن قِبَل مُدیر المركز و إمام المسجد

سماحة الدكتور الشيخ هادي مفتح

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين و الحمد لله الذی لا مُضادّ له في مُلكه و لا مُنازِعَ لَهُ في أمره. الحمدالله الذی لا شريك لَهُ في خلقه ولا شبيه لَهُ في عَظَمَتِه (جزء من دعاء الإفتتاح) وصلّی الله علی سيدّنا و نبيّنا محمّد صلّی الله عليه و علی آله الطاهرين و اصحابه المنتجبين. عبادالله ! أُوصيكم و نفسي بتقوی الله و اتّباع أمره ونهيه.

الأنبياء في القرآن (50)

یوسف (8)

   لقد اختار النبي يوسف ع السجن عندما خيّرته زليخا بينه وبين الاستجابة لطلبها. يقول القرآن الكريم {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ}[1].

ونستخلص من هذه الآية الكريمة ومناجاة النبي يوسف مع ربه درسين نستفيد منهما في حياتنا:

  1. ترجيح الحياة الصعبة مع العفة على الحياة السهلة المقترنة بالمعصية

لقد أكدّ القرآن الكريم أنّ يوسف الصدّيق قد رجّح السجن والحياة فيه الصعبة المقترنة بالعفّة والشرف على الحياة المرفهة والحرية المقترنة بالمعصية والنذالة:  {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ}[2].

وهنا بإمكان الإنسان أن ينشغل بالنعم الإلهية الدنيوية وينعم بالحياة المريحة والمرفّهة. إنّ الاستفادة من النعم الدنيوية ليس أمراً سيئاً. ويقول الله سبحانه إنّ قد خلق الدنيا بأسرها ونعمها الكثيرة كي يستفيد الناس منها {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}[3].

  وهكذا يُحب الله أنّ يحظى الإنسان بحياة طاهرة وسليمة. كما أنّ جميع التعاليم الإلهية تكون لتحصيل سعادة الإنسان ونجاحه في الحياة الدنيوية المؤقتة بالإضافة إلى الحياة الأبدية في الآخرة. ويحصل أن تأتي محطات في حياة الإنسان يجب عليه أن يختار بين السعادة والراحة والرفاه في الحياة الدنيوية المؤقتة والسعادة والفلاح في الحياة الأبدية الأخروية. وهذا من الإمتحانات الإلهية التي تحصل لكلّ شخص. وفي الواقع يختار الإنسان أحد الطريقين إمّا الراحة في الدنيا أو السعادة في الآخرة.

   إنّ الإنسان الذي يمكنه أن يجني ربحاً أكثر من خلال الكذب في المعاملة أو الغش في البيع حيث يبيع بضاعته بقيمة أكبر, أو الربح في الدعوى القضائية بواسطة تزوير المدرك, سيقف على مفترق إحدى الطريقين إمّا الدنيا أو الآخرة.

   وعليه يجب على الإنسان في هذه الامتحانات الإلهية أن يرجّح بعقله وفهمه جانب السعادة والنجاح الأبدي في الآخرة على الرفاهية والراحة المؤقتة الدنيوية. ويقول أمير المؤمنين ع إنّه لا يظلم نملة صغيرة حتّى لو أُعطي الدنيا بأسرها حيث يقول:  “وَاللَّهِ لَوْ أُعْطِيتُ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلَاكِهَا عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللَّهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جُلْبَ شَعِيرَةٍ مَا فَعَلْتُهُ وَ إِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لَأَهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضَمُهَا”.

  1. عدم تبرئة النفس مقترن باللجوء إلى الله

   لم يغترّ النبي يوسف بعد هذه العفّة والابتعاد عن المعصية التي ظهرت منه بنفسه, كما لم ينأى بنفسه عن المعصية بل لجأ إلى الله وطلب المساعدة منه للابتعاد عن المعصية أأ{وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ}[4].

   ومن وساوس الشيطان التي تقود الإنسان للغفلة عن مكره استفادة الشيطان من غفلة الإنسان عن نفسه, ولذا عليه أن يصون نفسه من خدع الشيطان. ومن الواضح أن الشيطان يسعى لخداع الإنسان من نفس جهة صيانته لنفسه وبالتالي تضعف مراقبة الإنسان لنفسه من هذا الجانب وتتهيأ فرصة أفضل للشيطان كي يخدعه. وقد حذّر الله سبحانه وتعالى الإنسان من صيانة نفسه وعصمتها من الذنب والخطأ عندما قال {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ، هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ، فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ، هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}[5].

   كما أنّ كلام النبي يوسف حسب هذه الآية {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي}[6].

   وهنا يغترّ الإنسان بنفسه عندما يبرّؤها عن الذنب والمعصية. ويحصل أحياناً أن تكون نفس هذه العبادات السبب في عجب وغرور الإنسان والوقوع في مكائد الشيطان.

وهكذا نجد أنّ القرآن يحذّر هذا الإنسان عندما يقول{يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}[7].

   ويقول أمير المؤمنين ع في تفسير هذه الآية وبيان هذه الغفلة المضلّة: “یَا أَیُّهَا الْإِنْسَانُ مَا جَرَّأَکَ عَلَی ذَنْبِکَ؟ وَ مَا غَرَّکَ بِرَبِّکَ؟ وَ مَا أَنَّسَکَ بِهَلَکَهِ نَفْسِکَ؟ أَ مَا مِنْ دَائِکَ بُلُولٌ؟ أَمْ لَیْسَ مِنْ نَوْمَتِکَ یَقَظَهٌ؟ أَ مَا تَرْحَمُ مِنْ نَفْسِکَ مَا تَرْحَمُ مِنْ غَیْرِکَ؟”[8].

[1]  سورة یوسف:الآية ۳۳.

[2]  سورة یوسف: الآية ۳۳.

[3]  سورة لقمان: الآية۲۰.

[4]  سورة یوسف: الآية ۳۳.

[5]   سورة النجم: الآية ۳۲.

[6]  سورة یوسف: الآية ۵۳.

[7]  سورة  الانفطار: الآية 6.

[8]  نهج البلاغة، الخطبة 223.

اترك تعليقاً

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Post comment