صلاة الجمعة

خطبة صلاة الجمعة في مسجد الإمام عليّ (ع) في هامبورغ

مُقامة مِن قِبَل مُدیر المركز و إمام المسجد

سماحة الدكتور الشيخ هادي مفتح

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين و الحمد لله الذی لا مُضادّ له في مُلكه و لا مُنازِعَ لَهُ في أمره. الحمدالله الذی لا شريك لَهُ في خلقه ولا شبيه لَهُ في عَظَمَتِه (جزء من دعاء الإفتتاح) وصلّی الله علی سيدّنا و نبيّنا محمّد صلّی الله عليه و علی آله الطاهرين و اصحابه المنتجبين. عبادالله ! أُوصيكم و نفسي بتقوی الله و اتّباع أمره ونهيه.

الأنبياء في القرآن (59)

شعیب (3)

جواب شعيب على الإشكال الأول وتهديد قوم له

ينقل القرآن الكريم أنّ شعيب قد أجاب على الإشكال الأول لقوم مدين عندما اتّهموه بمخالفته لعبادتهم وصرفهم للأموال, وهددّوه بطرده من المدينة إذا لم يؤمن بدينهم ويترك التوحيد بالله:

أ‌. التأكيد على حكم العقل باتباع الدليل والبرهان

لقد أكد شعيب في الجواب على إصرارهم على الرضا بعبادة الآلهة المنحرفة بتّباع الاستدلال والبرهان والرجوع إلى العقل. وقد دعا قوم مدين إلى التفكر والعقلانية عندما قال لهم {يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا}[1]…

ب‌. التأكيد على القاعدة الذهبية في الأخلاق

لقد توصّل علماء الأخلاق بعد سنوات من التفكّر والتأمّل في باب الأخلاق والمعيار العملي لها إلى هذا الأصل وهو أنّ الأخلاق موجودة في طبيعة الإنسان والنظام الذاتي له بشكلٍ فطري وذاتي. ويقول هذا الأصل: “يجب على كلّ شخصٍ أن يتصرّف مع الآخرين بالشكل الذي يرتضي أن يتعاملوا معه به”.

 نعم إنّ تسمية هذه القاعدة بالذهبية كان متأخراً. وقد راج هذا المصطلح في القرن السابع عشر والثامن عشر في أوروبا, وانتشر أيضاً بعد الحرب العالمية الأولى في جميع أنحاء العالم شيئاً فشيئا.

تؤكد هذه القاعدة على نبذ العجب وحب الذات والتعصّب والوحدانية. وتؤدّي هذه القاعدة إلى استقامة وصحة عمل أفراد المجتمع. وعليه تقيم في هذه القاعدة عدم انحيازك وانصافك. وهكذا نجد في الواقع أنّ تطبيق هذه القاعدة يؤدّي إلى إيجاد رؤية منصفة وعادلة وعقلانية مقرونة باحترام الأشخاص.

ومن النتائج التي نحصدها من هذه القاعدة الذهبية عادة تعاملنا مع الآخرين برأفة وشفقة وإحسام, سواء أردنا الحصول على هذه الموارد أم لم نرد, بالإضافة إلى الابتعاد عن الأعمال السيئة والمشينة والخداع والخيانة.

وقد تمّ التأكيد على هذه القاعدة في كلام النبي وأمير المؤمنين عليهم السلام, فقد أجاب أمير المؤمنين (ع) الشيخ الذي سأله وطلب منه تعليمه ما قد تعلّمه من الله سبحانه وتعالى عندما قال له : ” أحبب لغيرك ما تحبّه لنفسك, واكره له ما تكرهه لها”.

وقد ورد في الأناجيل أنّ عيسى قال: تعامل مع الآخرين كما تحب أن يعاملوك, وهذا ما أكدّ عليه جميع الأنبياء في وصاياهم.

كما قد واجه النبي شعيب اعتراض قوم مدين لماذا لم يسمح لهم بالتصرف بأموالهم كما يشاؤون والعبادة أيضاً كما يريدون عندما قال لهم {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ، إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ}[2]…

ت‌. نصحه لقومه وشفقته على عاقبتهم   

وهكذا وبعد كل هذه الإساءة التي شهدها شعيب من قومه, أشفقه قلبه عليهم وأراد الخير لهم عندما قال {وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ؛ وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ}[3].

التهديد المقترن بالإهانة

لم يتمكن قوم مدين من الإجابة على كلام شعيب المنطقي ومحبته لهم, لا بل هدّدوه وأهانوه {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ}[4].

وقد كانت هذه الإجابة آخر كلام بين شعيب وأهل مدين. وسعى فيها هذا النبي الإلهي بتذكيرهم بالله, والخوف والخشية منه بالإضافة إلى احترامه وإجلاله عندما قال لهم {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ؛ وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ}[5].

العاقبة المشينة لأهل مدين

في نهاية المطاف نزل العذاب الإلهي على قوم مدين. وكان مصيرهم الهلاك في الدنيا والآخرة بعد عدم سماعهم لما يريده شعيب وإهمالهم له وعدم الاكتراث لمحبته وإشفاقه عليهم {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ؛ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ}[6].

[1]  سورة هود: 88.

[2]  سورة هود: 88.

[3]  سورة هود: 89 – 90.

[4]  سورة هود: 91.

[5]  سورة هود: 92 – 93.

[6]  سورة هود: 94 – 95.

اترك تعليقاً

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Post comment