بسمه تعالی
 
الحمد لله ربّ العالمین و الحمد لله الذي لا مُضادّ له في مُلكه و لا مُنازِعَ لَهُ في أمره ، الحمدالله الذی لا شریك لَهُ في خلقه و لا شبیهَ لَهُ في عَظَمَتِه جزء من دعاء الإفتتاح وصلّی الله علی سیّدنا و نبیّنا محمّد صلّی الله علیه وعلی آله الطیبین الطاهرین و أصحابه المنتجبین.
عباد الله أُوصیكم و نفسي بتقوی الله و اتّباع امره و نهیه .
 
 إنَّ ما لا شك فیه ، هو أنَّ الإحساس بالأمن من الحوائج الفطریّة لكلّ إنسان ، فإنّه یحبّ أن یحسّ بالأمن الروحيّ و النفسيّ أین ما كان مقرّه لیحسّ بالهدوء و السكینة في المحیط الذي یعیش فیه و لذلك نری التأكید علی ذلك في الإسلام ، بل وفي كلّ الأدیان الإبراهیمیّة. و لذلك فإنَّ إنتشار القلق و إنعدام الأمن في المجتمعات مذموم و منفيٌّ في كلّ الأدیان السماویّة. إنَّ تحقُّـق الأمنیّة هي من أهمّ العوامل التي توفِّر العیش في رغدٍ و أمان في أيِّ مجتمعٍ ما كان.
إنّنا نری في التوراة الذي هو الكتاب المقدس للیهود ذكر الصلح و الأمن ما یقارب المئتین مرّة. كما و إنّنا كثیرًا ما نری ذكرها في الكلمات القصار في التالموت. و منها تعبیر ما محتواه أنَّ « العالم یستقرُّ علی ثلاث أسُسٍ و هي الصِّدق و الحُكم بالعَدل و الصُلح و المَحَبّة ، فلو لم یكن هنالك صلحٌ فلا وجود لأيِّ شیئ فإنَّ الصُّلح عظیم. » كما و أنَّ الصلح هو منتهی الآمال في كلّ الرغبات و هو الذي یكون في ختام دعاء الكـَهَنة « و أن یَهَبَ لكَ الصُّلح .» [1]  
و هنالك تأكید في الكتاب المقدّس علی أنَّ الصلح یجب أن لا یكون منحصرًا لجمع خاصٍّ من الناس أبدًا أو زمانٍ خاصٍّ أو مكانٍ خاصٍّ ، بل إنّ الله تبارك و تعالی تفضّل بنعمة الصلح علی كلّ العالم و الجمیع من ذریّة إبراهیم ع . [2] فإنَّ من واجبات الیهود أن یسعوا لإقرار الصلح والسلام و المحبّة و العدالة في العالم. و بناءً علی التفاسیر التي یتوصّل العلماء الیهود إلیها ، هو أنَّ أحد الأعمال الصالحة التي یتمتّع کلّ إنسان بثمارها في الدنیا هو إقرار الصلح و الصفاء و المحبّة بینه و بین نظیره. 
كما و أنَّ « الصُّلح » هو أوّل الشروط لتحقیق العدالة و أهمّ العوامل لحفظه وهو من أركان نشر الإستقرار و الطمأنینة في العالم ، إذ أنَّ إهمالِه سوف یؤدّي إلی تلاشي الصلح و السلام و إنتشار الحروب بین المجتمعات الإنسانیّة و سفك دماء الأبریاء فیها.
إنَّ نشر المحبّة و المودّة تجاه الآخرین من التعالیم الموجّهة بكلّ تأكید في التوراة في تعبیر « أحبب نظیرك كما تحبّ نفسك »      
 كما و أنَّنا نری في السُنَنِ المسیحیّة أنَّ مشیئة الله تبارك و تعالی و محبّته تجاه عباده تكون كمحبّة الأب لأولاده ، أي بمعنی أنَّ كلّ أفراد البشریّة یكونون أعضاء عائلة واحدة و یتمتّعون بالمحبّة الإلهیّة في العلاقات فیما بینهم و لذلك فإنَّ المحبّة للباري جلّ و علا لا تنفصل عن المحبّة لمخلوقاته أبدًا. 
و هنالك التأكید في السُنَنِ المسیحیّة علی أنَّ لكلّ الناس أن یتمتّعوا بالحقوق الإجتماعیّة و لا یجوز لأيِّ فرد أن یُخَرِّبها أو یتلفها و لذلك فإنَّ الإرتباطات الإجتماعیّة تكون مبنیّة علی ثلاث أسس و هي : « التضامُن و التعاون و المشاركة » و معنی ذلك هو أنَّ التضامن من الأمور الفطريّة و هو مبنيٌّ علی العفو و المصالحة و التوافق بین الناس.
 و یجب ذكر أنَّ من أُسُسِ التعالیم المَسیحیّة هي أنَّ الصلح و التئاخي الذین یتحققان علی أساس العدالة و أيِّ نوعٍ من الفصل بین العدالة و الصلح یكون منفیًّا و ما لا شك فیه هو أنَّ في الإسلام أیضًا التأكید الحثیث علی التعامل بین الناس بالصلح و العدالة و بیانُ أن لو إن أراد الناس أن یعیشوا بالصلح و الأمان ، فیجب أن یعملوا بکلّ ما في وسعهم لکي یجعلوا العدالة تسود في كلّ المجتمع ، إذ أنَّ الأمن و الصلح لا یتحقّقان ما لم تسود العدالة في كلّ المجالات الإجتماعیّة.     
إنّنا نری في مزامیر داود بیانُ أنَّه « . . . حین یكون السعي لإنقاذ العالم و الإنسان و هذَینِ هما العاملان الَّذَین یكمِّلُ أحدهما الآخر بوسیلة الشهادات المقدّسة ، و عند التكملة بملاقاة المحبّة و الإیمان فإنَّ الصلح و العدالة عندئذٍ یحضن أحدهما الآخر. »   
و حتی في دین الزراتشتیّن تكون الحروب مكروهة و مذمومة حیث أنَّ في أنشِدَتِهِم ما محتواه هو: « إنّنا نحمد الدین النظیف في كلّ عالمٍ ینفي الحروب. إنَّ البشارة بمنع الحرب هو التوسُّم بالتخلّي عن النفس الأنانیّة.» إنَّ هذا التعبیر هو ما یقرأه كلّ متدیِّن بالزراتشتیّة یومیًّا ، كما و أنَّ من أسُسِ إعتقاداتهم هو الإبتعاد عن التعدّي علی الآخرین لإثبات الصلح و المودّة بین جمیع الأقوام و القبائل.     
فلو إن تمعّنّا في التعالیم التي تخصُّ هذا الأمر في الإسلام الذي هو آخر الأدیان الإبراهیمیّة  و إتمامها ، لرأینا التأكید الحثیث علی أنَّ الصلح و الصداقة و الأمن العام هي من أهمّ الأصول الإسلامیّة ، بل إنَّ تحقیق الصلح هو العامل الأعلی الذي یتمّ به نفي الحروب و منع إشعالها ، و یجب حتی الإمتناع عن كلّ عاملٍ یؤدّي إلی فقدان الأمن و نشر القلق و تهدید التعادُل في الحیاة الإجتماعیّة في رغدٍ و أمان و السعي لمنع العوامل التي تؤدّي إلی الفقر المادّيّ و التبعیض العنصريّ و الظلم و الجهالة و الأمّیّة و الإنتماء إلی الفِرَق التي تُعادي الآخرین و أمثال ذلك ، و لذلك نری أنَّ التعالیم الإسلامیّة مبنیّة بالتأكید علی المداراة مع الناس و نشر الصلح و المصالحة فیما بینهم.
و حین نتمعّن في الآیات التي فیها ذکر الصلح في القرآن الکریم و السیرة النبویّة التي كان الرسول الأكرم ص یتوسّم بها و الأوصیاء الذین كانوا یؤكدون علیها ، تثبت لنا حقّانیّة كلّ هذه التعالیم و الحقیقة هي أنَّ شعائر الدعوة إلی الصلح المبني علی التعالیم الإلهیّة و القیم المعنویّة تکون من أهمّ التعالیم الدینیّة التي نراها في القرآن الكریم ، كما نری بیان نموذج من ذلك في الآیة العاشرة من سورة الحجرات في قوله تعالی :« إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ » [3]
نرجو الله تبارك و تعالی أن یمنّ علینا جمیعًا بالتوفیق لفهم المعارف الدینیّة الإسلامیّة ونسأله جلَّ وعلا التوفیق للتعمُّق في خشیته و طاعته  بالرغبة و المحبّة له و لأولیائه علی عتبة رحمته و تجاه الآخرین من عباده و أن نحمده و نشكره علی كلِّ ما وهبنا من الهُدی وأن نسعی بكلِّ ما في وسعنا لمعرفة سبیل الرشاد والعمل الصالح و هو وليُّ كل توفیقٍ و له الحمد و الشكر علی كلّ النِّعَم.
 والسلام علیكم و رحمة الله و بركاته

اترك تعليقاً

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Post comment