بسم الله الرحمن الرحیم
الحمد لله ربّ العالمین و الحمد لله الذي لا مُضادّ له في مُلكه و لا مُنازِعَ لَهُ في أمره، الحمدالله الذی لا شریك لَهُ في خلقه و لا شبیهَ لَهُ في عَظَمَتِه جزء من دعاء الإفتتاح وصلّی الله علی سیّدنا و نبیّنا محمّد صلّی الله علیه وعلی آله الطیبین الطاهرین و أصحابه المنتجبین. عباد الله أُوصیكم و نفسي بتقوی الله و اتّباع امره و نهیه .
الموضوع : المعارف الإسلامیّة 106 الإسلام و السلام والأمن 13
لقد إتّضح لنا في الخُطَب الماضیة بأنّ الأمن من النِّعَم الكبیرة في الحیاة الإجتماعیّة و المهمّ هو معرفة العوامل التي تمانع تحقیق الأمن في المجتمعات البشریّة.
و قد تطرّقنا في الخُطبة الماضیة إلی العوامل الإیجابیّة و العوامل السلبیّة التي لها تأثیر علی الأمن الإجتماعی . كما و أنّنا ذكرنا بعض الظواهر التي تخصُّ الترابُط بین الأخلاق و الأمن و تَبَیَّنَ لنا منها إنَّ هنالك إرتباط عمیق بین هذین العاملین و أنَّ الأخلاق في الحقیقة هي الضمان لسیادة الأمن في المجتمع و یجب مراعاة هذه الأمور و السعي لتحقیقها و نشرها إذ أنَّ الأمن لا یتحقّق بحاله بل إنَّه یكون نتیجةً للكثیر من العوامل و أهمّها هو عامل الخلق الإجتماعي.  
فالمجتمع الذي تنتشر فیه المفاسد الاخلاقیه یکون مقابلاً لالظروف الأخلاقیّة الحرجة و تنعدم فیه المعنویّات و هذه الظروف الحرجة تدلُّ علی أنَّ المجتمع یفقد الأمن بمرور الزمان أكثر فأكثر ، و لذلك نری التأكید الحثیث علی تجنُّب ما ینشر إرتخاء الروابط الإجتماعیّة في كلام أمیر المؤمنین و توصیاته لکلّ من كان یعمل معه. فنری مثلاً في كتابه الموجّه إلی مالك الأشتر التوصیة إلی التجنُّب بکلّ شدّة عن التفضیل بین الناس في توجیه التسهیلات و إعطاء الإمكانات و أن یكون العدل الإنصاف هو المعیار للتقسیم في قوله :
« أَنْصِفِ‏ اللَّهَ‏ وَ أَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ وَ مِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ وَ مَنْ لَكَ هَوًى فِيهِ فِيهِ هَوًى مِنْ رَعِيَّتِكَ فَإِنَّكَ إِلَّا تَفْعَلْ تَظْلِمْ وَ مَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللَّهِ كَانَ اللَّهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ وَ مَنْ خَاصَمَهُ اللَّهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ‏ وَ كَانَ لِلَّهِ حَرْباً حَتَّى يَنْزِعَ أَوْ يَتُوب» [1]
إنَّ ما نستنتجه من هذه التعابیر هو أنَّ القوانین و السُّنَن الأخلاقیّة مثل الإنصاف و مراعاة حقوق الآخرین  یجب أن تكون مُسنوناً في القوانین التي یجب مراعاتها و إتِّباعها و أن یعلم المسؤلین في الحُكم بأنَّ إجراء القوانین و تطبیقها بالعدل تجاه الجمیع من وظائفهم التي لا جدال فیها كما و یجب أن یعلموا بأنَّهُم لو لم یُطَبِّقوا القوانین کما یجب ، فسوف یُعَدُّون من المجرمین الذین علیهم العقوبات و یجب أن یقبلوها علی أيِّ حالٍ كان.
و لذلك یجب الوقوف بكلّ جدٍّ أمام الرشوة و التملُّق و الإحتیال و الإعتیاد و الإسراف و عدم الإلتزام بالقیود و المعاییر الأخلاقیّة و السعي لنفیها من العادات السائدة في المجتمع إذ أنَّ كلّاً من هذه العوامل التي تنشأ من الضعف و الفساد الإخلاقيّ هي التي تُسَبّب زیادة إنتشار الضعف و الفساد الأخلاقيّ و یمكن أن تتسرّب إلی المجالات الإداریّة و الغیر إداریّة و تنشر الفساد و عدم الثبات الأخلاقيّ.
و للأسف الشدید نری أنَّ هذه الرذائل الأخلاقیّة في یومنا هذا هي التي تُسبّب إنتشار الفقر علاوة علی التبعیض بین أفراد المجتمع و هي التي تسَبِّب نشر العُقَد النفسیّة و الإضطراب و الكئابة بین الناس و حتی البعض من الناس یكون قد فقد هویّته الشخصیّة و النتیجة تكون في النهایة إنتشار المصائب و التهدید و الآفات الإجتماعیّة. و أمّا ما یخصّ الرشوة و الإرتشاء فإنّها من أسوأ المساوئ التي إذا إنتشرت في المجتمع ، بالرغم من أنَّها ممنوعة و مُحقّرة في كلّ الدُّوَل و هي جریمة لا شك فیها و من الناحیة الشرعیّة فهي ممنوعة مُحرّمة لا جدال فیها ، و لكن و مع الأسف الشدید نری إنتشار القلق و فقد الأمن في بعض المجتمعات البشریّة لدرجة بحیث أنَّ الثقة و الإعتماد یبتعدان عن المجتمعات و یفقد الناس فیها الإعتماد و الثقة فیما بینهم و تنتشر الإزدواجیّة و عدم تواجُد الهویّة المعنویّة في نفسیّة الأشخاص و تموت القلوب و تكون الحیاة الإجتماعیّة قد إنقلبت و أصبحت خالیة من أیّة مُثُلٍ و معنویّات.
وقد إنحدرت الأوضاع في العصر الحاضر إلی درجة من الإنحطاط بحیث أنّه یری الکثیر من الناس أنّه لا یمكن أداء أيِّ عملٍ و لا قضاء أیّة حاجةٍ من دون الرشوة و لو یُغطّي البعض الرشوة تحت غطاء الهدیّة و لكن الرشوة تبقی علی حالها ، كما نری بیان ذلك في سورة المائدة في قوله تعالی: « سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطينَ» [2]
و قد ذكر الإمام الرضا ع عن جدّه أمیر المؤمنین ع في تفسیر هذه الآیة بأنَّ « الأَكَّالُ لِلسُّحْتِ هُوَ الرَّجُلُ‏ الَّذِي يَقْضِي لِأَخِيهِ الْحَاجَةَ- ثُمَّ يَقْبَلُ هَدِيَّتَهُ» [3] و ما نستنتجه من هذه الآیة و هذا التفسیر الواضح هو أن لا یجوز قبول الهدیّة من ایِّ احدٍ قبال مساعدته فی قضاء حاجاتهِ
فخلاصة الكلام من كلّ هذه المباحث هي أنَّ الرذائل الأخلاقیّة و خصوصًا ما یخصّ الإرتباطات الإجتماعیّة لو إنتشرت في أيِّ محیطٍ كان سواءً إن كانت في محیط الدوائر الحكومیّة أو الغیر حكومیّة تسبِّب القلق و عدم الثبات بین الناس. و لذلك فإنَّ الوسیلة الوحیدة للنجاة من هذه الكوارث هي التربیة الصحیحة للجیل الصاعد لتجنب أيِّ نوعٍ من الأخطار و المضارّ الإجتماعیّة و الوقوف أمام الفساد في الأجواء الإجتماعیّة التي یكون الفساد قد إنتشر فیها و السعي لعلاجها و منعها من الإنتشار و كلّ ذلك لا یمکن تحقیقه ما لم تتغیَّر الأفكار و نظرة الناس إلی الآخرین و یؤکّد علی أنَّ الناس كلهم من منشأ واحدٍ و حقیقة و احدة و أنَّ المشكلة التي یُبتلی بها الفرد في المجتمع هي المشكلة التي تعني الجمیع فلذلك یجب علی الجمیع أن یتشاركوا في السعي لحفظ كرامة كلّ إنسان.  
فنتیجة الكلام الذي دار حول الأمن الإجتماعی هو أنَّ الأمن في الأحكام الإسلامیّة یكون من أبرز خصائص المجتمع السالم و من المواهب و النِّعَم الإلهیّة الكبری. القرآن الکریم یدعوا للامن بین الناس و انشائه في المجتمع لكي یتمتّع الجمیع بالحیاة و أن یسعوا لنیل الكمالات في أمنٍ و رغد. و هذا الأمن له أهمّیّته في كلّ المجالات الإجتماعیّة و الشخصیّة و یجب أن تتحقّق لكي یشعر الناس بالأمن فیما یخصّ أرواحهم و حفظ كرامتهم و الأمنَ في العمل و الشغل و الأمور العائلیّة و الحیثیّة و القضائیّة و السیاسیّة و الثقافیّة و الأمن الدینی و المذهبیّ. القرآن الكریم یصرّح بأنَّ الأمن هو إحدی الضرورات الإنسانیّة المهمّة في العالم و علیها التأكید الحثیث كما و أنّنا نری التأكید علی الإبتعاد و التجنُّب عن العوامل التي فیها التهدید للأمن الإجتماعیّ و هذه الأمور هي التي سوف نتطرّق إلیها بالتفصیل و بكلّ دقّة إن شاء الله تبارک و تعالی.
و في ختام الكلام نسأل الله تبارك و تعالی أن یمنّ علی الجمیع بالإهتمام و التعاون في نشر الامن و السلام بین جمیع الناس و بهدایة المُصلِح و المُنجي الموعود أن تتوافق جمیع الشعوب و جمیع الأدیان الإلهیّة للحیاة في أمنٍ و رغد جنبًا إلی جنب في جمیع أبعاد المجتمعات البشریّة.
نرجو الله تبارك و تعالی أن یمنّ علینا جمیعًا بالتوفیق لفهم المعارف الدینیّة الإسلامیّة ونسأله جلَّ وعلا أن یُوَفِّقنا  للتعمُّق في خشیته و طاعته  بالرغبة و المحبّة له و لأولیائه علی عتبة رحمته و أن نکون خلوقین محسنین تجاه الآخرین من عباده و أن نحمده و نشكره علی كلِّ ما وهبنا من الهُدی وأن نهتمّ بكلِّ ما في وسعنا لمعرفة سبیل الرشاد والعمل الصالح و هو وليُّ كل توفیقٍ و له الحمد و الشكر علی كلّ النِّعَم.         
           والسلام علیكم و رحمة الله و بركاته

[1].  نهج البلاغة للصبحي صالح ؛ ؛ ص: 428؛ رسالة : 53

[2].  المائدة 5 ؛ آیه:42  

[3].  وسائل الشيعة ؛ ج‏17 ؛ ص95

اترك تعليقاً

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Post comment