صلاة الجمعة

خطبة صلاة الجمعة في مسجد الإمام عليّ (ع) في هامبورغ

مُقامة مِن قِبَل مُدیر المركز و إمام المسجد

سماحة الدكتور الشيخ هادي مفتح

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين و الحمد لله الذی لا مُضادّ له في مُلكه و لا مُنازِعَ لَهُ في أمره. الحمدالله الذی لا شريك لَهُ في خلقه ولا شبيه لَهُ في عَظَمَتِه (جزء من دعاء الإفتتاح) وصلّی الله علی سيدّنا و نبيّنا محمّد صلّی الله عليه و علی آله الطاهرين و اصحابه المنتجبين. عبادالله ! أُوصيكم و نفسي بتقوی الله و اتّباع أمره ونهيه.

الموضوع: أوصاف المتّقین (51)

العلامة الواحدة والعشرين:

تَرَاهُ قَرِيباً أَمَلُهُ“.

   إنّ (طول الأمل) أو (الأماني البعيدة المنال) تُعدّ من نقاط ضعف الإنسان, والتي تكون بدورها منشأً للكثير من الأمراض النفسية. نعم إذا أردنا أن ننظر إلى أصل وجود (الأمل) عند الإنسان فهو نعمة إلهية, ذلك أنّه لو لم يكن هناك أمل فإنّ الكثير من مساعي البشر لن تتحقق. يقول النبي الأكرم (ص): “الْأَمَلُ رَحْمَةٌ لِأُمَّتِي، وَ لَوْلَا الْأَمَلُ مَا أَرْضَعَتْ أُمٌّ وَلَداً وَلَا غَرَسَ غَارِسٌ شَجَرا[1].

   هذا ويمكن للأمل عندما يصبح هدفاً ومع التخطيط الصحيح أن يصل بالإنسان إلى أعلى المراتب. ولكن يجب أن يبقى الحذر موجوداً بأن لا تذهب هذه الأماني بالإنسان إلى السعي المفرط الذي يجعله أسير التعلّق بالدنيا. يقول القرآن الكريم {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى‏ أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَ أَمْلى‏ لَهُم}[2]. (أملى لهم) من مادة (إملاء), أي بمعنى إيجاد طول الأمل وإشغال الإنسان بالأماني البعيدة والطويلة وصرفه عن الحق.

   ويقول أيضاً {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}[3]. تتحدّث هذه الآية عن الناس الذين لا يدركون شيئاً غير اللذة المادية, وكل ما يأتون به من سعي يكون من أجل هذه اللذة. فنجد أنّ تعبير (ذرهم) في هذه الآية يُؤكدّ أنّ هذه الفئة ما دامت آمالهم طويلة وبعيدة المنال فلن يكون هناك أمل بهدايتهم, وإلاّ لم يُؤمر النبي الأكرم بتركهم على حالهم أبداً.

   وعليه نجد أنّ الكثير من الناس يهلكون بسبب عدم تحقّق أمانيهم وآمالهم الطويلة البعيدة المنال, فتراهم قلقين من ذلك ولأجل هذا يصعب عليهم كثيراً ترك الدنيا والتخلّي عنها. يقول أمير المؤمنين (ع): “إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِطُولِ‏ آمَالِهِمْ‏ وَ تَغَيُّبِ آجَالِهِمْ حَتَّى نَزَلَ بِهِمُ الْمَوْعُودُ الَّذِي تُرَدُّ عَنْهُ الْمَعْذِرَةُ وَ تُرْفَعُ عَنْهُ التَّوْبَةُ وَ تَحُلُّ مَعَهُ الْقَارِعَةُ وَ النِّقْمَةُ[4].

   إنّ طول الأمل في نظر أولياء الله أصعب وأخطر بكثير ممّا يتصوّره الناس. يُبيّن أمير المؤمنين (ع) الصورة الحقيقية لطول الأمل ويُؤكد على خطورة هذا الأمر عندما يقول: “أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ [اثْنَتَانِ‏] اثْنَانِ اتِّبَاعُ‏ الْهَوَى‏ وَطُولُ‏ الْأَمَلِ‏ فَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ وَأَمَّا طُولُ الْأَمَلِ‏ فَيُنْسِي الْآخِرَة[5].  

 

 

بعض نتئج الآمال الطويلة والبعيدة

1) سوء العمل

   إذا رجعت إلى الأشخاص أصحاب الأماني الكبيرة ستجد أنّ هدفهم النهائي هو الوصول إليها. ولذلك لا يتورعون عن الإتيان بأيّ عمل ٍصحيح أو غير صحيح من أجل ذلك. يقول أمير المؤمنين (ع): “مَنْ‏ أَطَالَ‏ أَمَلَهُ‏ سَاءَ عَمَلُهُ[6]. ويقول أيضاً: “أَطْوَلُ‏ النَّاسِ‏ أَمَلًا أَسْوَؤُهُمْ عَمَلًا[7].

   من هنا نجد أنّ المتّقين قد تحّرروا من التعلّق بالمادة بسبب تقصير آمالهم, وبالتالي انعكس ذلك على طهارة أعمالهم. نقرأ في الرواية الواردة عن أمير المؤمنين (ع): “مَنْ‏ قَصُرَ أَمَلُهُ‏ حَسُنَ عَمَلُهُ[8].

2) عدم الشكر

   من ابتلى بالأماني الطويلة والكبيرة سيجد كل نعمة أقل مما كان يُمنّي نفسه بها صغيرة, ولن يسعد بها, وبالتالي لن يشكر النعم الإلهية. لذلك جاء في الخبر عن أمير المؤمنين (ع): “تَجَنَّبُوا الْمُنَى‏ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِبَهْجَةِ نِعَمِ اللَّهِ عِنْدَكُمْ وَ تُلْزِمُ اسْتِصْغَارَهَا لَدَيْكُمْ وَ عَلَى قِلَّةِ الشُّكْرِ مِنْكُم[9].

3) قساوة القلب والبعد عن الله

   إنّ الأماني الكبيرة تبعث على قساوة القلب, وقساوة القلب تحرم الإنسان من الأنس بالقرب من الله. جاء في مناجاة موسى عليه السلام مع الله: “يَا مُوسَى‏ لَا تُطَوِّلْ‏ فِي الدُّنْيَا أَمَلَكَ فَيَقْسُوَ قَلْبُكَ وَالْقَاسِي الْقَلْبِ مِنِّي بَعِيدٌ[10].

   والخلاصة أنّ المتّقين ومن أجل أن يقتربوا من الحريم الإلهي قد ابتعدوا عن الأماني البعيدة والكبيرة وتعلّقوا فقط بالله سبحانه وتعالى.

[1]  نزهة الناظر وتنبيه الخاطر، ص٢١.

[2]  سورة محمّد:الآية ٢٥. 

[3]  سورة الحجر:الآية ٣. 

[4]  نهج البلاغة, صبحي صالح، ص ٢٠٥.

[5]  نهج البلاغة, صبحي صالح، ص٨٣.

[6]  الخصال، ج‏١، ص١٥.

[7]  عيون الحكم والمواعظ (ليثي)، ص١٢٠.

[8]  عيون الحكم والمواعظ (ليثي)، ص٤٤٩.

[9]  تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم، ص٣١٤.

[10]  الكافي، ج‏٢، ص٣٢٩.

 

اترك تعليقاً

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Post comment